مع اقتراب احتمالية إدراج اسم لبنان على«اللائحة الرمادية» لمجموعة العمل المالي الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينا فاتف)، في اجتماعها المرتقب، خلال سبتمبر المقبل، شهد لبنان انعقاد مؤتمرين مهمين، لمواجهة مخاطر تداعيات «العزلة» المالية الدولية التي سيتعرض لها، في ظروف يعاني اقتصاده المتدهور صعوبات شديدة، بعد انهيار ناتجه المحلي من 55 مليار دولار إلى أقل من 20 ملياراً، وفي خضم التوترات الأمنية والجيوسياسية غير المسبوقة، مع استمرار العمليات العسكرية على حدوده الجنوبية مع إسرائيل.

وجاء انعقاد المؤتمرين، في ظل ارتفاع حالة القلق من احتمال «انزلاق» لبنان تدريجياً نحو «اللائحة السوداء» كنتيجة طبيعية لاستمراره في تجاهل الإصلاحات الضرورية التي طلبها صندوق النقد الدولي، وعدم التجاوب مع التحذيرات المتتالية لوزارة الخزانة الأميركية، من مخاطر عجزه عن مكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وكذلك المماطلة في وضع أي خطة لإعادة هيكلة القطاع المالي، حتى بات اقتصاد النقد الورقي بيئة خصبة لكافة أشكال العمليات غير المشروعة.

فيما أصاب «التحلل» مختلف المؤسسات الرسمية، ومنها السلطات القضائية والضريبية، وهو «عائق» إضافي حال دون تفعيل معايير الرقابة والمحاسبة التي تفرضها المؤسسات الدولية. ولذلك رفع البطريرك بشارة الراعي خطر«الاقتصاد الأسود» إلى مستوى غير مسبوق، فدعا مجموعة شخصيات مارونية الى إجتماع طارئ عقد في 21 أغسطس الحالي في الديمان، تحت عنوان «خطر الاقتصاد الموازي على الكيان والعيش والمشترك»، وشارك فيه إضافة إلى عدد من المطارنة، سياسيون واقتصاديون وناشطون في الشأن العام. ومع الإقرار بأن«المسيحيين هم الأكثر تضرراً من الاقتصاد الموازي»، إلا أن خطاب المجتمعين كان باتجاه المطالبة بمعالجة وطنية، لأن الضرر يطول كل اللبنانيين الذين يعيشون، ويحاولون العمل تحت سقف القانون، واحترام الأسس التي يقوم عليها اقتصاد الدولة.

مع التأكيد أن «استمرارالنزف الإقتصادي من خلال الاقتصاد الأسود، وتدمير قطاعات الإنتاج، يرقى إلى مستوى الخطر الوجودي الذي يهدد فعلاً الكيان اللبناني والعيش المشترك، ومحوره المساواة والعدالة، ودائماً احترام الدولة وقوانينها ومؤسساتها».

أما المؤتمر الثاني، فكان«الملتقى السنوي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب: تداعيات الاقتصاد النقدي على النظام المصرفي»، الذي عقد في 22 أغسطس الحالي بتنظيم من إتحاد المصارف العربية. وقد ناقش المؤتمرون الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان في مواجهة مشكلة «الاقتصاد النقدي»، الذي سهّل عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وأكدوا أن هذه الإجراءات لاتكفي، في غياب الثقة بالقطاع المصرفي، وهي العامل الأهم في إجراء العمليات المالية، والتحويلات عبر الحدود.

ويرى حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أن استمرار اختيار الاقتصاد النقدي، يعني أن لبنان لا يزال يواجه ملاحظات وتنبيهات مؤسسات التمويل الدولية والبنوك المراسِلة، فضلاً عن أن عملية تقييم لبنان التي بدأت عام2021 من قبل (فاتف) لاتزال مستمرة، وكذلك لا يزال لبنان في حاجة الى إرسال تقارير متابعة، تظهر مدى التقدم الحاصل على صعيد تنفيذ الإجراءات الإصلاحية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب خلال العام 2024.

ولكن يبقى أن العلاج الصحيح للاقتصاد النقدي ومخاطره، أن يبدأ لبنان باستعادة الثقة الداخلية والخارجية، وهو أمر لن يتحقق إلا بإعادة أموال المودعين، وإصدار القوانين المطلوبة بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، بما فيها هيكلة إدارة مصرف لبنان، وتعديل قانون النقد والتسليف، وتحديد المسؤوليات في توزيع الخسائر البالغة نحو 76 مليار دولار، والتي تم هدرها خلال السنوات الخمس الماضية.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية.