كان يا ما كان، في العالم العربي، في زمن ليس ببعيد، كتب ومجلات متخصصة بثقافة الأطفال العرب، وكانت متنوعة وموزعة في عواصم مثل الكويت وبيروت والقاهرة وأبوظبي وحتى في عمّان.
أنا شخصياً أدين بكثير من «تأسيس المعرفة» إلى مجلة «ماجد»، التي بدأت بالصدور في أبوظبي في سبعينيات القرن الماضي ومجلات أخرى كثيرة إلى جانبها كان من يقوم على إصدارها نخب محترمة في عالم الفكر والثقافة والفن (مثلاً كان الفنان السوري الكبير نهاد قلعي في آخر أيامه محرراً لمجلة لبنانية للفتيان اسمها «سامر»).
كانت تلك الحالة أحد أهم محفزات «القراءة»، والتي كانت تدرج في الهوايات مثل السباحة وجمع الطوابع والعملات (كيف يمكن أن نشرح الطوابع والعملات في عصر الإيميل والواتس اب والعملة الرقمية؟).
ربما أستطيع الادعاء أنني من جيل تمكن من النجاة منفلتاً بشيء من الوعي بسبب تلك القراءات المبكرة والمدروسة وغير المقيدة بوصاية الفقه والموروث.
انتهى هذا النشر المتخصص وانقرض، وانسحب من المشهد لعدة عوامل، أولها انتشار تكنولوجيا المعرفة التي لم نوظفها في العالم العربي بشكلها الأمثل، فانتهينا إلى فراغ استطاعت تيارات التطرف التي أتقنت استخدام الإعلام الذكي أن تملأه بمحتوى «ديني» على صيغة خطاب موجه للأطفال، وانتهينا بقنوات تلفزيونية للأطفال موجهة، قائمة على حشو الطفل بالموروث التقليدي نفسه بدلاً من أن تحفزه على التفكير، بل إنني أتصفح الإنترنت لأجد حديثاً عن تقارير علمية في علوم النفس وتربية الطفل تحذر من أن محتوى بعض تلك القنوات المتخصصة، تؤذي الأطفال، وتولد لديهم الإدمان عليها ثم التوحد!
لا أتبنى آراء تلك الدراسات التي لم أتفحص مصادرها جيداً، لكنني تابعت بعض تلك القنوات الموجهة باتجاه واحد، وأرعبتني فكرة مخاطبة الطفل بأي خطاب يقيد حريته في ابتكار الدهشة والأسئلة في عالمه الصغير والمفتوح على البراءة.
​​الطريف في الأمر، أني وأثناء بحثي، وجدت مواقع سلفية، تهاجم تلك المحطات المتخصصة أيضا، لكن من زاوية أنه لا يجوز أن يتعلم الطفل المسلم أي شيء من المعازف والموسيقى مستندين إلى آراء ابن تيمية وابن القيم، وهي ذات الآراء بالمناسبة التي تسمح وتبيح بل وتشجع على زواج القاصرات، واستلهم منها الموروث التقليدي ذلك، فتم اغتيال الطفولة في كثير من مجتمعاتنا العربية.
لماذا هذا الموضوع مهم؟
لأننا ببساطة لو فكرنا في صناعة جيل متحرر من كل خيباتنا وعقدنا المتوارثة جيلاً بعد جيل، وأعطينا الطفولة حقها بتربية أسرية سليمة ومنفتحة على الحوار، لانتهينا بعالم عربي متقدم بعد جيل أو جيلين على الأقل.
مشكلتنا – عموماً- مع أطفالنا وأولادنا أننا نعيد إنتاج التجربة ذاتها، التي خضناها كأطفال، معهم من جديد، وإن اختلفت الأدوات والوسائل.
لا يختلف الطفل العربي عن أي طفل آخر في العالم، إلا بالحواضن التي ترعى نموه، بدءاً من حاضنة الأسرة وانتهاء بحاضنة الدولة.
الأطفال ليسوا زينة الحياة الدنيا وحسب، وهذا التصنيف لو توقفنا عنده واكتفينا لانتهينا إلى أن نرسخهم كحالة استمتاع آنية، فالأطفال، أي أطفال، هم مشاريع نمو للوعي، وفي عالمنا العربي وللأسف، هم أحياناً مشاريع وعي موءودة.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا