لا يزال ثمّة أمل في التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة، وقد يتحقّق قريباً رغم أن تجارب عديدة أظهرت، خلال الشهور الطويلة الماضية، سواء في مجلس الأمن الدولي أو على مستوى الأطراف الوسيطة، أن أطراف الحرب لا تولي للأضرار الجسيمة التي تهزّ العقول والأفئدة حول العالم اهتماماً، جاعلة من تاريخ قطاع غزّة وحاضره ركاماً ومن مستقبل أهله ضرباً من المجهول.

وبموازاة ما يحدث في غزّة تدور رحى حرب ضارية بدأت في الخرطوم، قبل عام ونيّف، وانتشرت في أجزاء واسعة من السودان، حرب كادت لفترةٍ طويلة أن تصبح منسية، لولا أن المنظمات الأممية دأبت على التذكير بالأوضاع الإنسانية المتدهورة التي قلبت حياة السودانيين رأساً على عقب. هنا أيضاً تُبذل مساعٍ لوقف إطلاق النار أو لتمرير مساعدات تحدّ من المجاعات والبؤس.

الأخطر والأسوأ لا يزالان أمامنا: أوبئة وأمراض في قطاع غزّة، إصابات بعشرات الألوف من دون مستشفيات، وتكدّس للسكان (2.2 مليون إنسان) في ما يقارب عُشر مساحة القطاع مع «أوامر الإخلاء» التي صارت يومية من هذه المنطقة وتلك، ما يضاعف معاناة الناس بسبب ندرة وسائل نقل وصعوبة انتقال المسنّين والأطفال. تُقدَّم إسرائيل الإخلاءات على أنها للحدّ من الضحايا المدنيين، لكنها استهدفت هؤلاء بمجازر المساجد والمدارس ومخيمات النازحين... ورغم اختلاف الظروف في السودان، فإن أكثر من عشرة ملايين هجّروا من بيوتهم ومدنهم، فوقعوا بين نارين وأكرهوا على أن يكونوا فرائس للاقتتال الأهلي ولما يستتبعه من تداعيات كارثية، من دون أي ضوء في نهاية النفق. في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن كانت هناك دعوات ملحّة إلى «هدنة إنسانية»، بل استثنائية في غزة، لتسهيل القيام بحملة تطعيم للأطفال دون سن العاشرة مع ظهور أولى الإصابات بفيروس شلل الأطفال، وعادة ما يكون ذلك نذيراً بتفشي المرض سريعاً.

و«كل تأخير يعني انتشاراً أوسع»، بحسب منظمة الصحّة العالمية ووكالة «الأونروا» ومنظمات إغاثية عديدة. لكن تلك الدعوات بقيت بلا صدىً، بلا استجابة، رغم تحذير المفوض العام لـ «الأونروا» بأن هذا المرض «لا يميّز بين الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين». ومعروف أن فيروس شلل الأطفال «شديد العدوى، يغزو الجهاز العصبي، وينتقل بسرعة من شخص إلى آخر. في الوقت نفسه كان يُدق ناقوس الخطر لتفشي الكوليرا في مناطق عدّة من السودان، وهو بدوره مرضٌ «حاد ومعدٍ».

كلا المرضين ينتشر في نقص الوقاية أو الرعاية، كما هي حال النازحين في غزّة والسودان، حيث الطعام والماء ملوّثان، إنْ توفرا. وفي الحالَين تعزّ أبسط شروط النظافة وتحول قسوة الأوضاع الأمنية دون إيصال اللقاحات وتوزيعها واستخدامها بأمان. ثمة انهيارات كثيرة ومن أهمها الانهيار التام للنظام الصحي وبنيته التحتية، وعدم احترام أو مراعاة لما قد تسمّى «اعتبارات إنسانية»، وأيضاً انعدام مسؤولية من جانب أطراف الحرب المباشرة وغير المباشرة، فضلاً عن انكشاف فادح لهشاشة المجتمع الدولي وعجزه. فعندما يستحيل إجماع أصحاب القرار أو توافقهم على مبادرات حيوية وفاعلة، سياسية أو حتى مجرّد إنسانية، يصبح العالم متفرّجاً، وعندما تطول المآسي من دون معالجة يصبح مشاركاً قسرياً فيها. قليلة هي المرّات التي وجدت منظمات الإغاثة نفسها معطّلة وغير قادرة على القيام بواجبها، ومع أنها تحاول أن تكون مجهّزة للطوارئ والتحدّيات، فإن العاملين فيها يقرّون بأن ما تحتاج إليه الحالات المرضية والوبائية تفوق ما لديها، إذ أنها تعاني هي نفسها من تراجعٍ في التمويل الدولي.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن