كان ارتفاع التضخم خلال العامين الأولين من ولاية الرئيس جو بايدن سبباً في تقليص شعبيته بشكل كبير، وربما كانت ذكرى تلك الحلقة التضخمية هي السبب الرئيسي وراء إظهار استطلاعات الرأي، على الأقل حتى وقت قريب، لتفوق دونالد ترامب فيما يتعلق بالاقتصاد. لكن أحدث استطلاعات الرأي التي رأيتها تُظهر أن هذه الميزة تقلصت بشكل كبير، بل إن هناك مسحين، أحدهما أجرته صحيفة فاينانشال تايمز والمسح المنتظم لميول المستهلكين في ميتشيجان، يظهران أن نائبة الرئيس كامالا هاريس أكثر ثقة إلى حد ما من ترامب في إدارة الاقتصاد في المستقبل. يعكس بعض هذا بالتأكيد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي، فعلى الرغم من كونها جزءاً من فريقه، فقد لا تحمل هاريس بعض أعباء التضخم.
ولكن من الصحيح أيضا، كما أكد بايدن في خطابه في المؤتمر ليلة الاثنين، أن التضخم انخفض كثيراً - وقد بدأ الناخبون أخيرا في ملاحظة ذلك. كان التغيير على مدى العامين الماضيين مذهلاً. فقد بلغ تضخم أسعار المستهلك ذروته عند 9%، وهو الآن أقل من 3%. ويمكن القول إن صورة التضخم الحقيقية أفضل. إذ أن أرقام التضخم في الولايات المتحدة تضع ثقلاً كبيراً على سعر لا يدفعه أحد وهو الإيجار المقدر على المساكن المملوكة (الإيجار الذي قد يتلقاه مالك المنزل إذا كان سيؤجر منزله، أو بدلاً من ذلك، الإيجار الذي سيدفعه إذا استأجر منزلا)، والذي يتخلف كثيراً عن أسعار الإيجار في السوق من بين أمور أخرى. وإذا قسنا التضخم بالطريقة التي تتبعها البلدان الأخرى، فبدون هذه الطريقة في الحساب، فإننا نصل إلى مستوى التضخم قبل الجائحة. لذا فقد قمنا في الأساس برحلة ذهاب وعودة كاملة بشأن التضخم (ارتفاعه ثم انخفاضه). ولكن ما الذي أدى إلى انخفاضه؟ قبل أن أفسر ذلك، دعونا نتحدث عن نوعين من الناس الذين يرفضون الاعتراف بهذه الأخبار الطيبة. أولاً، هناك من يزعمون أن الأرقام الرسمية لا يمكن الوثوق بها، وأن التضخم ليس في انخفاض حقيقي.
وبشكل عام، لا يدرك الأشخاص الذين يقولون مثل هذه الأشياء كيف يعمل مكتب إحصاءات العمل على جمع بيانات الأسعار ومدى صعوبة تزوير الأرقام. ولكن إلى جانب ذلك، هناك العديد من المصادر المستقلة للأدلة على التضخم، وكلها تؤكد في الأساس صورة رحلة ذهاب وعودة كاملة (ارتفاع التضخم ثم انخفاضه) إلى حد ما. ومن بين المفسدين الرئيسيين الآخرين للاحتفال بتراجع التضخم أولئك الذين يقولون إن انخفاض التضخم لا يكفي، بل يتعين علينا أن نعيد مستوى الأسعار إلى ما كان عليه في الماضي.
وكمثل العديد من خبراء الاقتصاد، حاولت دون جدوى أن أزعم أن هذه فكرة سيئة حقاً. ولكن دعوني أحاول مرة أخرى، بالحديث عن الأجور. منذ عام 2019، وهو العام الذي يستشهد به الناس عادة عندما يقولون إن الأمور كانت أفضل في الماضي، ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 22.6%، وهو ما أثار انزعاج كثيرين. ولكن متوسط الأجور بالساعة ارتفع بنسبة 25.3%، في حين ارتفعت أجور العمال غير المشرفين (الموظفون الذين لا يتحملون مسؤوليات إدارية أو إشرافية في وظائفهم) بنسبة 28.2%. وإذا كنت تريد أن ترى الأسعار تنخفض بشكل كبير، فهل أيضا تؤيد انخفاض الأجور بشكل كبير؟ وإذا لم تكن تؤيد، فكيف تعتقد أن من الممكن إحداث انخفاض كبير في الأسعار من المستويات الحالية؟
إذن، فقد عاد التضخم إلى طبيعته بشكل أساسي، وهو كل ما يمكننا أن نتوقعه بشكل معقول وإعادة الأسعار إلى مستواها القديم ليس ممكنا ولا مرغوبا فيه. ولكن الآن بعد أن أزلنا هذين الاعتراضين، يمكننا استكشاف السؤال المطروح: كيف نجحنا في خفض التضخم؟ في عام 2022، اعتقد العديد من خبراء الاقتصاد وإن لم يكن جميعنا! أن خفض التضخم سيكون عملية مؤلمة للغاية، تتطلب سنوات من البطالة المرتفعة للغاية. وهذا، على أي حال، ما كان مطلوبا لإنهاء التضخم المرتفع في سبعينيات القرن العشرين. لكن هذا الرأي المتشائم أثبت خطأه. فعلى الرغم من ارتفاع معدل البطالة قليلا، فإنه يظل منخفضا تاريخيا ولكن كما كنت أقول، يبدو أن التضخم قد هُزم على أي حال.
فكيف سارت الأمور على ما يرام؟ الإجابة الأبسط والأكثر ترجيحا هي أن التضخم المرتفع كان ناجما بشكل رئيسي عن الاضطرابات المرتبطة بكوفيد. فقد تسبب الوباء في تغييرات كبيرة في كيفية إنفاقنا لأموالنا وكيفية عملنا، واستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتكيف الاقتصاد. وانعكست صعوبات التكيف هذه في ضغوط كبيرة ولكنها مؤقتة على سلاسل التوريد، كما تم قياسها من خلال مؤشر أنشأه بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، مع ظهور أولى علامات التضخم أثناء الوباء - هل تتذكرون ذعر ورق التواليت العظيم؟ - ومشكلة أكثر ديمومة مع انحسار الوباء وتعافي الإنفاق. كما انعكست قضايا التكيف في زيادة مؤقتة في عدد الوظائف الشاغرة. مع مرور الوقت، تعلمت الشركات كيفية التعامل مع الحقائق الجديدة. تم حل سلاسل التوريد (على الرغم من أن شخصا ما نسي أن يخبر ترامب).
وأصبح أرباب العمل أفضل في إحداث توازن بين العمال والوظائف. ومع حل هذه المشاكل، انخفض التضخم دون الألم الهائل الذي توقعه كثيرون. هناك بالطبع العديد من التفاصيل في هذه القصة وبعض الأسئلة الكبيرة التي لم تتم الإجابة عليها. على وجه الخصوص، ما هو الدور الذي لعبته زيادات أسعار الفائدة في انكماش التضخم؟ وهل كان بنك الاحتياطي الفيدرالي بحاجة حقا إلى تشديد السياسة النقدية بقدر ما فعل (وهل هو متأخر عن المنحنى في خفض أسعار الفائدة الآن بعد انخفاض التضخم)؟ لكن الخطوط العريضة الأساسية لما حدث تبدو واضحة. وهي، من بين أمور أخرى، تبرئة كبيرة لاقتصاد بايدن. في أشهرها الأولى قامت إدارة بايدن بزيادة الإنفاق الحكومي بشكل كبير.
بالطبع، ندد «الجمهوريون» بخطة الإنقاذ الأميركية. لكن بعض أشد الانتقادات جاءت من خبراء الاقتصاد ذوي الميول «الديمقراطية»، إذ وصفها لاري سامرز بأنها «السياسة المالية الأقل مسؤولية» في 40 عاما. في جذورها، عكست هذه الانتقادات الاعتقاد بأن الإنفاق الحكومي من شأنه أن يتسبب في ارتفاع التضخم الذي سيصبح راسخا في الاقتصاد وينتهي به الأمر إلى صعوبة كبيرة في خفضه. لكن التضخم لم يتفاقم في الواقع. وبشكل عام، لم تشهد الولايات المتحدة مؤخرا تضخما أكبر من الدول الغنية الأخرى، في الوقت الذي حققت فيه نموا أعلى بكثير. لا يزال المستهلكون يحملون آراء سلبية للغاية بشأن الاقتصاد، على الرغم من أنه أصبح من غير الواضح ما إذا كانت هذه الآراء السلبية ستضر بـ«الديمقراطيين» كثيرا في نوفمبر. ولكن بعيداً عن السياسة، يبدو من الواضح الآن أن اقتصاد بايدن نجح بشكل جيد إلى حد كبير.
*أكاديمي أميركي حاصل علي جائزة نوبل في الاقتصاد.
د ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»