قد يحدث المرء أولاده (أو أحفاده) هذه الأيام عن «كان يا ما كان»..في جديد الزمان، أن كان هناك محطات تلفزيون محدودة العدد، ومحدودة ساعات البث، كانت تلك المحطات والتلفزيون نفسه أعجوبة زمانه وصندوق فرجة العجايب الأكثر اختراقاً للدهشة.
وكان أن أتت تلك المحطات أول الأمر منزوعة الألوان إلا بالأبيض والأسود، ثم تلونت بما يكفي أن أضرت بقرنية أجيال كاملة لبست النظارات في طفولتها الملتصقة بالشاشة غير الصحية وثقيلة الوزن، والريموت كونترول نفسه كان لم يخترع بعد مما يجعل مهمة تقليب المحطات أو التحكم بالصوت عملية شاقة يحملها الأصغر سناً في المكان بأوامر الأكبر سناً بالضرورة.
ومما كان حينها أن برامج الحوار تقع ساعة ذروتها غالباً في المساء، بعد النشرة الإخبارية الطويلة، وقبل فيلم السهرة، وكان فريق الإعداد في ذلك الزمان، موظفين رسميين بياقات بيضاء وربطات عنق، لكنهم بحق كانوا آخر المحترمين في عالم التلفزيون. فكان الضيوف ضيوفاً تليق بهم ضيافة الشاشة المقتحمة لسهرة المنزل.
وإن حدث ولم يعجبك الحوار، أو مللت منه (وأغلب الحوارات كانت مملة جداً)، فإنك أمام خيارين: إما أن تقلب على محطة أو محطتين على الأكثر من محطات دول الجوار، أو تقفل التلفزيون وتنام مبكراً! وكثيرون وأنا منهم كنت أقرأ كتاباً في وقت البرامج الحوارية، قبل فيلم السهرة. (..البحث عن محطات أكثر من ثلاث، كان يتطلب جهداً حقيقياً مع اختراع آنذاك اسمه الأنتين- الإيريال، الموجود فوق السطح).
حوالي منتصف الليل، كانت المحطات تقفل تماماً، مثل أي محل أثاث أو عصير له ساعات دوام. لتنتظر عودة البث نهار اليوم التالي ببرامج تكاد تكون نفسها، ومواسم الفرح كانت في رمضان، حيث تتغير بعض العادات البرامجية قليلاً.
كان رمضان، إعلاناً تلفزيونياً مبهجاً. وكانت أغنية رمضان الشهيرة تعميماً موحداً على كل محطات العالم العربي، أما الدراما فكانت بأقصى الأحوال لن تتجاوز ثلاثة أعمال، يقف خلفها عمالقة في الكتابة والإخراج والتمثيل…طبعاً مع إعادة لا أحد يضجر منها لأعمال دريد لحام ونهاد قلعي التلفزيونية والسينمائية، وكان أذان المغرب، أحلى دقائق البث التلفزيوني وما يطلبه الجمهور بالإجماع.
وقد يحدث المرء أحفاده أيضاً، أن التلفزيون، ببرامجه الحوارية الفنية، كان يستضيف فنانين حقيقيين، وكان على الفنان الذي تستضيفه أي محطة أن يكمل دورته الفنية بجدارة ليكون أهلاً كضيف على الشاشة، أما الفنان المستجد..فأمامه طريق طويل حتى يصل إلى حوار في سهرة فنية كاملة.
و كان يا ما كان أن يكون التليفزيون سيد الترفيه يوم الجمعة ببرامج تشبه حصاد الأسبوع، وكانت المحطات تسمي الحصاد بالمجلة عادة، فهناك مجلة الرياضة ومجلة السينما، ومجلة التلفزيون والمجلة الاقتصادية وهكذا..ويوم الجمعة هناك محطات كانت تعتمد فيلماً إضافياً بعد الظهر، مقصوص الجوانب حسب مزاج الرقيب الأخلاقي.
أسوق هذا كله وأتذكره وأنا أحاور ابنتي ذات الأحد عشر ربيعاً وأسألها عن سر ضجرها لتجيبني بثقة هائلة في عصر آلاف المحطات الفضائية واليوتيوب وغيره: لا أجد شيئاً مُسلياً على التلفزيون، ومللت الإنترنت!
أيوالله هذا جوابها، ويا حسرة على كان يا ماكان.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا