شبح حرب إقليمية الذي يلوح في الأفق لم يكن بهذه القوة والوضوح لو لم تشن «حماس» هجوماً على إسرائيل في 7 أكتوبر، ولو لم يطلق «حزب الله» قرابة 7500 صاروخ ومُسيرة وقذيفة على إسرائيل منذ ذلك الحين. غير أنه حتى لو لم تكن إسرائيل هي التي تسببت في هذا الصراع، فإن حكومتها تتحمل مسؤولية منع خروج الأعمال العدائية عن السيطرة مع ما ينطوي عليه ذلك من احتمال جر حلفائها الأميركيين إليه.
ومع ذلك، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتصرف بتهور وهو يدرك أن الجيش الأميركي سيتدخل لإنقاذ إسرائيل من عواقب سلوكها، على الرغم من أن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تجمعهما معاهدة دفاع مشترك. وهذا هو «الخطر الأخلاقي» الذي خلقه قرار بايدن غير المسبوق، وإن كان من الممكن تفهمه، باستخدام القوات العسكرية الأميركية لأول مرة للدفاع عن إسرائيل.
وإذا جاز القول، إن هناك معتدلين في جماعة «حماس»، فإن إسماعيل هنية كان يُعتبر معتدلاً داخل دائرة قيادة «حماس»، إذ كان من المؤيدين للتفاوض على وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وقد خلفه على رأس المكتب السياسي لـ«حماس» يحيى السنوار، مهندس هجوم 7 أكتوبر. ومن الصعب رؤية كيف يمكن أن يكون هذا انتصاراً لإسرائيل. غير أن لدى إسرائيل تاريخاً طويلاً في تنفيذ عمليات الاغتيال التي لم تحسّن من وضعها الأمني. فقد قامت إسرائيل بشكل متكرر باغتيال قادة «حماس» و«حزب الله»، ولكنها كانت في كل مرة ترى تلك الجماعات تزداد بأساً وقوة. وبالنظر إلى هذا التاريخ، فإنه من الصعب فهم لماذا شعر نتنياهو بأنه مضطر لقتل هنية الآن.
ولعل الأمر الأقل غموضاً -- والأكثر إحباطاً – من ذلك هو موقف نتنياهو المتناقض من مفاوضات وقف إطلاق النار مع «حماس». فالجنرالات الإسرائيليون يطالبون بوقف القتال الذي استنزف قواتهم ويضعف مردودهم. ثم إنه من المعلوم أن من شأن وقف لإطلاق النار في غزة أن يقلل إلى حد كبير من خطر اندلاع حريق إقليمي. وكانت «حماس» وإسرائيل قد اتفقتا مبدئياً على خطة سلام أعلن عنها بايدن تبدأ بوقف إطلاق النار لمدة 6 أسابيع، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المسنين والجرحى والنساء في غزة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق المأهولة بالسكان في قطاع غزة. غير أن اتفاقاً نهائياً بهذا الشأن ما زال بعيد المنال، ووفقاً لوثائق إسرائيلية مسربة إلى صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن جزءاً من المشكلة يكمن في أن نتنياهو أعاد النظر في موقف إسرائيل التفاوضي وتراجع عن تنازلات كان قد وافق عليها على ما يبدو في مايو الماضي.
ويمكن القول إن مطالب نتنياهو الأخيرة -- أن تسيطر إسرائيل على الحدود بين غزة ومصر وأن تشغّل نقاط تفتيش لضمان عدم حمل الفلسطينيين العائدين من جنوب غزة إلى شمالها للسلاح -- معقولة من حيث المبدأ. غير أن التغيير الواضح في موقف إسرائيل التفاوضي يثير مزيداً من الشكوك بأنه غير مهتم حقاً بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار قد يدفع أعضاء اليمين المتطرف في حكومته إلى الانسحاب احتجاجاً. وفي هذا السياق، أفادت تقارير صحفية بأن وزير دفاع نتنياهو نفسه، يوآف غالانت، انتقد في اجتماع مغلق مع أعضاء الكنيست عمليةَ صنع القرار لدى نتنياهو، واصفاً وعود نتنياهو بـ«نصر كامل» على «حماس» بـ«الهراء» ومشككاً في قدرة نتنياهو لاتخاذ قرارات صعبة مثل وقف إطلاق النار.
كما يقال إن إدارة بايدن مستاءة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بسبب مماطلته بشأن وقف إطلاق النار، واغتيال هنية، واستمراره في إحداث خسائر فادحة في صفوف المدنيين في غزة. ومع ذلك فإن بايدن، الذي كان طيلة حياته السياسية من المؤيدين المخلصين لإسرائيل، لا يحمّل نتنياهو المسؤولية. بل إن الإدارة الأميركية وافقت مؤخراً على مبيعات أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار، وهو ما يبعث برسالة إلى نتنياهو مؤداها أنه يستطيع الاستمرار في تجاهل المطالب الأميركية وتلقي الدعم الأميركي.
غير أنه ربما يجدر بنتنياهو الاستمتاع بالرحلة المجانية لأنها قد لا تدوم طويلاً. ذلك أنه إذا كانت نائبة الرئيس كامالا هاريس قد التزمت بأجندة بايدن في السياسة الخارجية، فإن هناك مؤشرات تفيد بأنها قد تكون أقل تأييداً لإسرائيل بشكل تلقائي من الرئيس – هذا علما بأن هاريس متقدمة الآن في استطلاعات الرأي. ومن جانبه، كان دونالد ترامب، أثناء رئاسته، أكثر استعداداً من بايدن لمنح إسرائيل شيكاً على بياض، غير أن علاقته مع نتنياهو متقلبة. كما أن ترامب غضب من رئيس الوزراء الإسرائيلي حين اتصل ببايدن لتهنئته على فوزه في انتخابات 2020، وانتقد طريقة تقديم الحرب الإسرائيلية على غزة للجمهور. ومن يدري ماذا سيفعل ترامب لو عاد إلى الرئاسة؟
ختاماً، هناك شيء واحد مؤكد، ألا وهو أنه أياً يكن الرئيس الأميركي الجديد، فإنه سيسترشد جزئياً على الأقل بالرأي العام. والحال أن الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل أصبح أقل إيجابية: إذ يشير استطلاع حديث للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» مؤخراً إلى أن عدد الأميركيين الرافضين للأعمال العسكرية الإسرائيلية ولنتنياهو أكثر من عدد الموافقين عليها (ما زال التأييد مرتفعاً بين الجمهوريين ولكنه متدن جداً بين الديمقراطيين). وعليه، يمكن القول إن الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل لن يتحسن إذا ما تم تحميل المسؤولية لنتنياهو، عن حق أو عن باطل، عن جر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران. ولهذا، فإن إسرائيل قد تندم على الخطر الأخلاقي الذي يتسبب فيه رئيس وزرائها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»