تتصارع المفاهيم في تاريخ الأفكار كما قُدِّر للبشر أن يتصارعوا مذ درج البشر على الأرض. من هذه المفاهيم المتصارعة مفهومي «قوة الحق» و«حق القوة»، حيث تبادل هذان المفهومان التأثير والقوة، كما تبادلا الحضور والغياب، والهزيمة والانتصار.
كان حقُّ القوَّة دائما شريعة الغاب، في هذه الشّريعة تتَّسعُ حرية القويّ حتى تصبح حرية مطلقة لا قيود لها من عرف ولا قانون ولا خلق، فالقويُّ هاهنا يصنع ما يشاء، ويفعلُ كلَّ ما تؤزُّه إليه شهواته الجامحة، قُوَّته غير قابلة للرّدع، فلا قُوّةَ فوق قوّته، إلا أن تُبْعثَ الحياةُ في ضميره فيدرك هول ما يصنع، وفداحة ما يقوم به، أو تنبري له مجموعة أقوى تمنع بأسه، وتَصُدُّ جوْره. كانت قوة الحق دائما شريعة المتحضرين، فلا تقوم حضارة إلا على قوانين تحمي وقصاص يردع، وقوة الحق لا ترى في صلف حق القوة مانعا لها عن الحركة الإيجابية في أروقة الحكماء وأهل البصائر تجأر بالدعوة أن تكون للقوانين السّيادة، وأن تكون السّنن المكتوبة وغير المكتوبة الحاكمة في الخصومات والمنازعات التي تكاد الأرض تميد بها وتضطرب.
قوة الحق رغم ضعفها لها صولة رمزية عندما تعجز عن الصّولة المادية، فهي بترسانتها القانونية والتشريعية والحقوقية تراقب الأوضاع وتسجل للعدالة والتاريخ التجاوزات الصارخة لحق القوة انتظار للقصاص العادل الذي لا تقوم الدول المحتضرة إلا به، ولنا في التاريخ أمثلة قوية على ذلك. يعلمنا التاريخ أن الكلمة الأخيرة لم تكن دوما إلا لقوة الحق، لأنها نداء الفطرة وملاك التعايش المشترك وأساس العلاقات الإنسانية التي لا تعمر الأرض إلا بها، وإذا كانت في ضعفها تقتصر على أن تقاسم المظلومين آلامهم ومواجعهم وحسراتهم فإنها في الوقت ذاته لا تني تستحدُّ دساتيرها ومعاييرها لتقيم الميزان في الوقت الأنسب، وللوقت رمزية كبيرة في تاريخ العدالة الإنسانية.
إن المجتمعات المتحضرة ناضلت طويلاً في تاريخها لسيادة القانون، إذ لا تَحَضُّر إذا لم يكن للمرء وعي بما له وما عليه، فيأخذ ما له ويقوم بما عليه من واجبات تجاه وطنه الذي يرعاه ويحدب عليه، ويمنع نفسه عن التعدي على ملكية الغير، حينئذ يسود الأمن والأمان والسّلم والسّلام وتنسج مجادل التعاون وتبسط بسط الأنس والإخاء. عندما يكون القانون شريعة الجميع لا أحد يفكر في انتهاكه خوفاً من يد العدالة الطولى، وطلباً للحياة الفضلى، الحياة في ظل السلام.
لقد علّمنا أصحابُ العقد الاجتماعي أن البشر تنازلوا عن بعض من حرياتهم من أجل الخضوع لقانون واحد يُشبع رغباتهم ويضمن لهم حرياتهم ويُعبِّدُ لهم سُبل التعاون خدمة لأوطانهم وطلبا لحياة تذرعها السّعادة والبهجة والكرامة. فلا تعيش المجتمعات تحت طائلة حق القوة إلا أن تكون حيوانات بشرية لا تراعي في الآخرين إلا ولا ذمة، إنها حالة الطبيعة التي نادى جون لوك بالخروج منها، لهذا السبب تدرك قوة الحق أن حياة مثل هذه لن تكون سوى حياة عارضة ما دام التاريخ يعلمنا أن جوهر الحياة لا يقوم إلا على قوة الحق، وأن المجتمعات تتداعى عندما يضعف فيها التماسك الاجتماعي بقوة السلطة والعرف والقانون. ولعل العربي القديم أدرك هذه الحقيقة عندما تداعى إلى «حلف الفضول» نصرةً لقوة الحق ضدا على حق قوة وإنْ كان من فرد ظالم شارد، وقد وعى العربي المعاصر، من خلال منتدى السلم للمجتمعات المسلمة، رمزية هذه الحقيقة أكثر، عندما جدّد هذا الحلف ودعا إلى تضافر جهود أهل البصائر والحجى من الحريصين على السّلام العالمي من أجل محاصرة حق القوة دفاعاً عن قوة الحق وانتصارا لها.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.