في عام 1469 ولد «ميكافيللي».. وهذا العام 2024 يواكب الذكرى 555 لمولده. لم يهتم أحد بتلك الذكرى، فميكافيللي شخص سيئ السمعة ثقافياً، ولم ينجح كتابه الشهير «الأمير» في تخليد جميل لذكراه، بل بقي طوال القرون الخمسة عامل تخليد قبيحاً، يجعل كاتبه حاضراً وكريهاً.. على الدوام.
عاش «نيكولو ميكافيللي» في إيطاليا في عصر النهضة، وقد سطع نجمه في فلورنسا.. سفيراً ومستشاراً وكاتباً ومؤرخاً.
على الرغم من انتماء ميكافيللي لعائلة عريقة الثراء، وشاهد في مكتبة والده آلاف المؤلفات، إلاّ أنه كان جائع سلطة لا يشبع، وراغب شهرة لا يهدأ، وطالب جاه لا يقنع. يطارد المنصب تلو الآخر، وينافق كرسي الحكم من دون النظر إلى من يجلس، حتى لو تبدلت الأمور من النقيض إلى النقيض. 
فلقد امتدح سلطة آل ميديتشي، ثم امتدح الثوار «الجمهوريين» الذين انقلبوا عليهم، ثم عاد وامتدح آل ميديتشي حين عادوا.. ولمّا عاد «الجمهوريون» من جديد عاد للمديح.. لكن طريق الآخرة كان أقرب من طريق السلطة.. إذْ ماتَ كمداً لغياب المنصب.
ربما كان ميكافيللي سيئ الحظ ليس أكثر، فقد كان رجل دولة، ورجل فكر رفيع المستوى، ولكنه عاش في حقبة من الاضطراب وعدم الاستقرار، وتغير نظام الحكم أكثر من مرة، ولم يكن بمقدور رجل طموح أن يفعل شيئاً إزاء ذلك سوى أن يتكيّف مع حالة عدم اليقين، وأن يدور، حيث تدور الأرض ببلاده، وحيث تدور مقاعد السلطة عبْر مائة وثمانين درجة.
ثمّة هنا ما يخفف أوزار ميكافيللي على نحو أكبر، فقد كان من بين القيم السياسية آنذاك أنَّهُ لا يجب أن يترك المثقفون المحترمون القادة المستبدين بحجة عدم النفاق، أو المشاركة في الشرّ، بل كان يجب عليهم أن يتقربوا منهم.. ليفعلوا كل ما يمكنهم فعله من أجل تغيير سلوكهم للأفضل.
في كتابه «الأمير» شرح ميكافيللي ما يجب أن يفعل القادة للبقاء في السلطة، وأنه لا يجب أن يشغلهم عن ذلك شيء، وبالطبع فإن كل ما يجب فعله لأجل البقاء كان سيئاً للغاية.. قتلاً وقمعاً وكبتاً للحريات، واستخداماً مفرطاً للقوة مهما كان الثمن.. فالغاية تبرر الوسيلة.
لقد نسي ملايين الناس ما كتب ميكافيللي، وما جاء في «الأمير» وغيره.. ولم تبق في ذاكرتهم سوى هذه الجملة - الجريمة: «الغاية تبرر الوسيلة».
قرأ نابليون ومحمد على باشا وستالين ولي كوان يو كتاب «الأمير»، وامتدحه اسبينوزا وجان جاك روسو وفرانسيس بيكون. ويرى الفلاسفة المعجبون بالكتاب أن ميكافيللي كان يسخر من الاستبداد لا يدعمه، ولمّا لم يكن بمقدوره القول الصريح، فقد مرّر الكتاب بهذه الطريقة الساخرة لكشف ألاعيب الطغاة.
لم يقنع اسبينوزا أو روسو أو بيكون الكثيرين، فلقد دخل ميكافيللي وكتابه التاريخ من أسوأ أبوابه.. ولا يمكن لألف فيلسوف أن يغيّر من ذلك الباب.
لو كان ميكافيللي يريد كشف الطغاة حقاً لفعل دون مواربة، لاسيما أنه لم ينشر الكتاب في حياته. ولو لم يكن قادراً على التصريح كان يمكنه أنْ يصمت.
كان الصمت سيمنع عنه الشهرة، لكنه كان سيمنحه الشرف. غياهب النسيان أفضل من خلود الكراهية.. خير للإنسان ألا يتذكره أحد.. من أن يتذكره الناس منظرّاً للشرّ ومرشداً للخطايا. 

*كاتب مصري