يزداد إيقاع قرع طبول التصعيد سرعة وتزداد معه التحذيرات إلحاحاً بينما يستعد فيه الشرق الأوسط لاحتمالات اندلاع أسوأ حرب في تاريخه منذ نصف قرن. غير أن نوعاً مختلفاً من الصراع - الذي يواجه قادة جميع الخصوم الرئيسين - سيحدد متى سيتّسع الصراع المستمر منذ 10 أشهر في غزة ليشمل كل منطقة الشرق الأوسط وما إن كان سيفعل.
ولعل أفضل وصف ينطبق على الوضع الحالي به هو أنه صراع بين الدماغ الأيمن والدماغ الأيسر، فوضى ساخنة من العواطف في مواجهة واقعٍ جيوسياسي بارد وقاس يفهمه جميع المتصارعين: أنه في حرب واسعة النطاق تجمع إسرائيل ليس فقط بـ«حماس» في غزة، بل بـ«حزب الله» المسلح من قبل إيران في لبنان، وبإيران نفسها، فإن الجميع سيدفع الثمن باهظاً. ولا أحد منهم يمكنه، بأي شكل من الأشكال، توقع الفوز.
إنها حقيقة تسعى واشنطن وحلفاؤها الرئيسيون جاهدين لتوضيحها للمعنيين بالأمر ضمن جهودها الرامية إلى الحؤول من دون أن تؤدي الجولة الأخيرة من العنف المتبادل إلى إغراق المنطقة في أخطر صراع متعدد الجبهات منذ الحرب العربية الإسرائيلية لعام 1973. ولئن كانت الولايات المتحدة وأوروبا والحكومات العربية والأوروبية باتت الآن على ما يبدو تنظر إلى تصعيد كبير في المنطقة باعتباره أمراً لا مفر منه في الأيام المقبلة، فإنها ما زالت تأمل في أن يسمح إدراك التكاليف الباهظة التي ستتكبّدها كل الأطراف في حرب شاملة باحتوائها والتراجع التدريجي عنها.
وهذا ما حدث قبل ثلاثة أشهر ونصف الشهر، وهي آخر مرة بدت فيها المنطقة على شفا حرب. ففي تلك الحلقة، كانت غارة جوية إسرائيلية قد قتلت ضباطاً كباراً في مجمع السفارة الإيرانية في سوريا، فردّت طهران على ذلك بأول هجوم مباشر على إسرائيل. غير أن إيران أعلنت عن توقيت الهجوم، وواشنطن نسّقت مع حلفائها للمساعدة في إسقاط عشرات الصواريخ والطائرات المسيّرة، وإسرائيل ردّت على ذلك بضربة واحدة على منشأة للدفاع الجوي في إيران بعد بضعة أيام.
أما هذه المرة، فإن الدافع المحتمل أكثر دراماتيكية: اغتيال إسرائيل لقائد «حزب الله» في العاصمة اللبنانية بيروت، ثم مقتل القائد السياسي لحركة «حماس» والمفاوض الرئيس لوقف إطلاق النار في طهران إسماعيل هنية، الذي كان في إيران من أجل حضور حفل تنصيب الرئيس الجديد.
ويبدو أن العواطف القوية هي التي تحرّك الآن قادة إيران و«حزب الله» وإسرائيل -- يعزّزها ما يبدو اعتقاد بأن استعراض القوة العسكرية منطقي من الناحية السياسية أيضاً. غير أن الواقع القاسي لما قد تعنيه حرب شاملة هو ما تأمل الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب أن يسمح باحتواء هذه الأزمة الأخيرة.
ما هي الكلفة المحتملة بالنسبة لإسرائيل؟ هذه الأخيرة وجدت أنه رغم حجم الدمار الهائل ونحو 40 ألف قتيل في غزة منذ 7 أكتوبر، فإنها لم تتمكن من تحقيق «الهزيمة الكاملة» التي تعهّد نتنياهو بإلحاقها بحركة «حماس». والأكيد أن حرباً أوسع نطاقاً ستكون أصعب من ذلك بما لا يقاس.
كما أن صراعاً طويلاً مع إيران قد ينهك حتى الدفاعات الجوية الإسرائيلية الفعالة جداً، ولا سيما بالنظر إلى احتمال أن تجد واشنطن صعوبة متزايدة في الاستعانة بحلفائها، الغاضبين من سلوك إسرائيل في غزة، للمساعدة على غرار ما فعلوا في الهجوم الصاروخي الإيراني في أبريل الماضي.
وعلاوة على ذلك، فإن «حزب الله» سيشكّل تهديداً أكبر بكثير. فالحزب، الذي يحشد قواته عبر الحدود الشمالية لإسرائيل، يُعد قوة أكبر بكثير وأفضل تجهيزاً من «حماس»، إذ يمتلك قرابة 150 ألف صاروخ، الكثير منها موجه بدقة وقادر على إصابة أي مكان في إسرائيل.
ولكن «حزب الله» يدرك أيضاً تكلفة حرب شاملة: حرب من شبه المؤكد أنها ستشمل ضربات إسرائيلية في عمق لبنان، بما في ذلك بيروت نفسها، تستهدف البنية التحتية الوطنية الرئيسة، وتتسبب في أضرار جسيمة وخسائر كبيرة في الأرواح. وكانت آخر حرب من هذا القبيل قبل قرابة عقدين من الزمن، صراع لم ينتصر فيه أي من الطرفين، وقال عنه نصر الله لاحقاً إنه ندم عليه.
وأخيراً، إيران. استراتيجية هذه الأخيرة في الشرق الأوسط تتمحور حول ما تسمّيه «محور المقاومة». هذه الشبكة من الحلفاء والوكلاء، والتي تشمل «حماس»، وميليشيات في العراق وسوريا، وقوات «الحوثي» في اليمن، وقبل كل شيء «حزب الله»، تتمتع بنفوذ سياسي في تلك الدول، وهي تطوّق إسرائيل فعلياً من دون الحاجة إلى أن تخاطر إيران بالتورط العسكري المباشر.
غير أن حرباً شاملة مع إسرائيل قد تؤدي إلى المجازفة بكل ذلك، فضلاً عن الأضرار المحتملة التي قد تُلحقها الضربات الجوية الإسرائيلية بالبنية التحتية الإيرانية وباقتصادها المتعثر أصلاً.
مكمن الخوف العميق لدى واشنطن هو أن تتغلب العواطف الغاضبة والحسابات السياسية الداخلية على دعوات التهدئة وضبط النفس، وأن تتخذ دوامة الهجوم والهجوم المضاد زخماً يستحيل وقفه. ومع ذلك، يظل أمل الولايات المتحدة، هو أن يتغلب الدماغ الأيسر على الدماغ الأيمن: أن يدفع هدوء الأعصاب وحسن التقدير جميع الأطراف إلى الكف عن التصعيد وتلافي حرب شاملة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»