انعقد المؤتمر العالمي التاسع لهيئات الإفتاء في العالم في القاهرة يومي 29 و30 يوليو، تحت شعار «الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع»، حيث تمحورت النقاشات حول دور الفتوى في صياغة الأخلاق وتوجيه المجتمعات وسط التغيرات السريعة والتحديات المتجددة. والفتوى في الإسلام ليست مجرد حكم شرعي، بل هي انعكاس للقيم الدينية والأخلاقية، مما يجعلها أداةً فعالة لبناء مجتمع أخلاقي قادر على التكيف مع المتغيرات دون التفريط في ثوابته. كما تتمتع الفتوى في الإسلام بدور محوري يتجاوز الإرشاد الديني، لتصبح وسيلةً لتأصيل القيم الأخلاقية في نفوس المسلمين. إنها تجسد العلاقة الوثيقة بين الشريعة والأخلاق، حيث تتطلب الفتاوى من العلماء والمفتين ليس فقط معرفة النصوص الشرعية، بل أيضاً القدرة على فهم الواقع المعاصر وتحدياته.

وبهذا الفهم العميق، تصبح الفتوى جسراً يربط بين القيم الثابتة والتغيرات المستمرة، مما يساعد على تحقيق توازن بين الأصالة والمعاصرة.إن البناء الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية يعتمد بشكل كبير على هذا التفاعل بين الفقه والأخلاق.

فالفقه كعلم ينظّم حياة المسلمين وفقاً للشريعة، ويعتمد في استنباط أحكامه على أصول الفقه التي تضع القواعد والمبادئ المستمدة من القرآن والسنة والإجماع والقياس. أما الأخلاق، فهي روح الشريعة ومقصدها الأسمى، وهي تهدف إلى تهذيب النفس وتوجيهها نحو الخير والفضيلة.

لذا، فالتكامل بين الفقه والأخلاق يضمن جعْلَ الأحكام الشرعية توجيهاتٍ حيةً تستند إلى القيم والمبادئ الأخلاقية. والأخلاق في الإسلام ليست مجرد توصيات سلوكية، بل جزء لا يتجزأ من العقيدة والشريعة، إذ تهدف إلى تهذيب النفس البشرية وتوجيهها نحو الفضيلة والخير، وهي مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. والأخلاق تعبّر عن القيم والمبادئ التي يجب أن يتحلى بها المسلم في تعامله مع الله ومع نفسه ومع الآخرين. والفقه هو العلم الذي يُعنى بفهم وتطبيق الأحكام الشرعية المستمدة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، ويهدف إلى تنظيم حياة المسلمين وفقاً للشريعة الإسلامية. أما أصول الفقه فهي القواعد والمبادئ التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية، والتي توضح كيفيةَ استخدام الأدلة الشرعية وتطبيقها على الوقائع المختلفة.

وهكذا فالأخلاق والفقه يرتبطان ارتباطاً وثيقاً في الإسلام، حيث توفر الأخلاق الإطار القيمي الذي يوجه الفقه ويضبطه، ويجب أن تكون الأحكام الفقهية متوافِقةً للمبادئ الأخلاقية. والفقه بدون الأخلاق يمكن أن يصبح مجموعة من القواعد الجافة التي تفتقر إلى الروح والقيم. وعلى سبيل المثال، يعالج الفقهُ قضايا مثل الصدق والأمانة والعدل، وهي قضايا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأخلاق. والتكامل المعرفي بين الأخلاق والفقه يضمن أن تكون الأحكام الشرعية عادلةً وشاملة، تحقق التوازن بين الحقوق والواجبات.

في عالمنا المعاصر، تتزايد التحديات الأخلاقية مع تسارع التطورات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية، مما يجعل دور الفتوى في البناء الأخلاقي أكثر أهميةً من أي وقت مضى. والفتوى ليست مجرد إجابة عن سؤال ديني، بل عملية بناء وتوجيه تتطلب من العلماء فهماً عميقاً للتغيرات الجارية وقدرةً على توجيه المجتمع نحو التكيف معها دون فقدان هويته الأخلاقية. وهذا يتطلب تطويرَ الفقه وأصوله بحيث يتمكن من مواجهة التحديات المعاصرة بمرونة وفعالية، مع الحفاظ على الثوابت الدينية والأخلاقية. وبهذا الفهم المتكامل، يمكن للفتوى أن تلعب دوراً أساسياً في تعزيز البناء الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية. من خلال التركيز على القيم الأخلاقية المستمدة من القرآن والسنة. ويمكن للفتوى أن تكون أداةً فعالةً ليس فقط في توجيه الأفراد، بل في بناء مجتمع قائم على العدل والرحمة والفضيلة.

إن هذا الدور المحوري للفتوى يعكس حكمة الشريعة الإسلامية وعمقها، مما يجعلها قادرةً على التكيف مع التغيرات المستمرة وتوجيه المجتمع نحو الخير والصلاح في كل زمان ومكان. والفقيه المسلم في هذا السياق ليس مجرد ناقل لأحكام الشرع، بل موجِّه أخلاقي يحمل على عاتقه مسؤوليةَ تربية المجتمع على القيم النبيلة والمبادئ السامية.

وهو الذي يَعبر بالأمة من مجرد الامتثال الشكلي للأحكام إلى الالتزام الروحي العميق بالأخلاق الإسلامية، مما يؤدي إلى بناء إنسان صالح، وأسرة متماسكة، ومجتمع متكافل يسوده التآخي والتراحم. هذا التكامل بين الفقه والأخلاق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال اجتهاد مستنير يراعي مقاصد الشريعة ويتفهم الواقع بتعقيداته.

اجتهاد يتطلب من الفقيه أن يكون على دراية ليس فقط بالنصوص الشرعية، بل أيضاً بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، حتى يتمكن من تقديم فتاوى تتسم بالعمق والشمولية، وتلبِّي حاجات الناس وتحقق مقاصد الشريعة في تحقيق العدل والرحمة والمصلحة العامة.

إن التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم تتطلب من الفقهاء والمؤسسات الإفتائية أن يتبنوا منهجيةً شاملة تتكامل فيها الأخلاق مع الفقه، وتستجيب للتغيرات السريعة دون المساس بالثوابت. والفتوى في هذا الإطار ليست مجردَ حكم شرعي، بل عملية بناء أخلاقي ومجتمعي تعزز القيم الإسلامية وتحقق السلم الاجتماعي والتوازن في حياة المسلمين. وبهذا الفهم العميق لدور الفتوى والأخلاق في البناء المجتمعي، يمكننا أن نواجه التحديات المعاصرة بثقة ووعي، ونحقق مجتمعاً مسلماً متماسكاً يسوده العدل والرحمة والتعاون، ويكون نموذجاً يُحتذى به في العالم.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة