منذ أكثر من سنتين، تكررت شائعة مغرضة حول بيع قناة السويس بنحو تريليون دولار. وانطلقت هذه الشائعة للمرة الأولى في عام 2022 على مواقع التواصل الاجتماعي، عندما أقر البرلمان المصري قانوناً بإنشاء صندوق سيادي، من شأنه زيادة قدرات البلاد على التنمية المستدامة، وأن يتم تمويله من الفائض باستثمار أصوله الثابتة أو المنقولة، وغير المتعلقة بأصول قناة السويس، وهي مال عام للدولة. ثم تكررت الشائعة مرات عدة، كان آخرها في مطلع يوليو الجاري، عندما تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً صوتياً يزعم نية الحكومة بيع القناة، ما دفع مجلس الوزراء إلى إصدار بيان قال فيه إن المقطع الصوتي مفبرك والمعلومات الواردة فيه «مزيفة ولا تمت للواقع بأي صلة».
وأكدت هيئة القناة بأنها ستظل مملوكةً بالكامل للدولة، ولا يمكن المساس بها أو بأي من مرافقها المصانة دستورياً في المادة 43 لجهة «التزام الدولة بحماية قناة السويس وتنميتها، والحفاظ عليها، بصفتها ممراً مائياً دولياً مملوكاً لها، كما تلتزم بتنمية قطاع القناة بوصفه مركزاً اقتصادياً مميزاً».
وفي سياق تاريخي، يستذكر المصريون أن الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، تأسست في 15 ديسمبر 1858، برأسمال قدره 200 مليون فرنك فرنسي (8 ملايين جنيه استرليني) بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا. وفي 15 فبراير 1875، ولتسديد ديون خارجية، باع الخديوي إسماعيل بريطانيا 44 في المئة من الأسهم، بقيمة 3976580 جنيهاً.
وفي 17 أبريل 1880، تنازلت الحكومة المصرية عن حقها في الحصول على 15 في المئة من ربح الشركة للبنك العقاري الفرنسي بمبلغ 22 مليون فرنك، فارتفعت حصة فرنسا إلى 56 في المئة. وبذلك أصبحت الشركة بكاملها تحت السيطرة المالية لفرنسا وبريطانيا. واستمر هذا الوضع حتى 26 يوليو 1956، عندما أعلن الرئيس جمال عبدالناصر تأميم القناة. ونصّت المادة الأولى من القرار على أن «تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية (شركة مساهمة مصرية)، ويُنقل إلى الدولة جميعُ ما لها من أموال وحقوق، وما عليها من التزامات».
وقد أوفت الدولة المصرية بكافة التزاماتها في يناير 1963، وبلغت جملة التعويضات 28 مليوناً و300 ألف جنيه استرليني. ولم تكتف مصر بإيرادات القناة المتزايدة التي تعد من أهم موارد الخزينة والتي وصلت إلى 9.4 مليار دولار في العام المالي 2022-2023، بل قامت بتنفيذ «المنطقة الاقتصادية لقناة السويس»، تنفيذاً لالتزامها بتنمية «قطاع القناة»، وهو مشروع عملاق يشكل إنجازاً ضخماً تنعكس نتائجه الاستثمارية في المنطقة العربية والعالم.
وإذا كانت حركة الملاحة العابرة بالقناة، قد تأثرت بشدة جراء تداعيات أزمة البحر الأحمر، وتراجعت إيراداتها إلى نحو7 مليارات دولار، فإن إيرادات المنطقة الاقتصادية لم تتأثر بذلك، بل زادت بنسبة 36 في المئة، وأسفرت جهودها الترويجية عن إقامة 218 مشروعاً باستثمار بلغ 5.12 مليار دولار، تساهم فيها عدة شركات عربية وأجنبية من جنسيات مختلفة. أما بالنسبة للأزمة المالية، فمع تراكم الديون التي دفعت الخديوي إسماعيل إلى بيع أسهم القناة للفرنسيين والبريطانيين، قبل نحو 166 سنة، فإن الوضع حالياً في مصر مختلف كلياً من جوانبه كافة. فعلى الرغم من الديون المترتبة عليها، فهي تعد من الدول القادرة على الوفاء بالتزاماتها. وقد تمكنت من تسديد نحو 25 مليار دولار من دينها العام منذ مارس الماضي، والذي تراجع إلى 153.86 مليار دولار في شهر مايو.
وزاد احتياطيها الأجنبي إلى 46.38 مليار دولار في يونيو، متفوقاً بذلك على مستويات الأمان الدولية. وسجل ميزان المدفوعات (في يناير- مارس) فائضاً كلياً بنحو 4.5 مليار دولار، وبلغ التدفق الاستثماري إلى الداخل نحو 20 مليار دولار بين يوليو 2023 ومارس الماضي.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية