ما عاد استقرار العديد من الدول وقفاً على التسويات الداخلية، ولا على الوساطات العربية. وفي قضيةٍ خطيرة مثل قضية فلسطين ما عادت هناك ثلاثة أطراف: الاحتلال الإسرائيلي، والطرف الفلسطيني المنقسم، ودول الجامعة العربية أو بعضها.. بل ظهرت أطراف أخرى في العقود الأخيرة أقدمها الولايات المتحدة، لكن منها أيضاً إيران. وهكذا فإنه عندما تنشب أزمة، والأزمات تكاد تكون مستمرة، فإنَّ حلَّ الأزمة، أو العودة للتهدئة، يفترض الاحتكام إلى أربعة أطرافٍ أو خمسة، ولكلٍ منها قدرة وإمكانيات على الإشعال وعلى الإسهام في التهدئة إن أراد بحسب رؤيته لمصالحه.
إنّ ما نقوله عن مسألة فلسطين هو الأكثر بروزاً الآن، لكنه ليس الظاهرة الوحيدة في الوضع الإقليمي العربي. ولننظر على سبيل المثال في الوضع السوري الذي تدخلت فيه عدة أطراف عبر قرابة الخمسة عشر عاماً. صحيح أنّ التسوية الداخلية ما كانت سهلة، لكنها الآن عامل واحد من عوامل متعددة في الأزمة بالداخل. تركيا مثلاً والتي تقول إنها تريد الانسحاب وتطلب التفاوض مع دمشق، بيد أن العقبة ليست في الحكومة السورية، فالأميركان موجودون في المناطق الكردية لحمايتها، ويكون على الأتراك وعلى الحكومة السورية التفاهم معهم على الانسحاب بعد تقديم ضمانات للأكراد.
لكن من جهةٍ أخرى هناك حلفاء تركيا الرسميون في سوريا وهم الإيرانيون والروس. والروس مهتمون بالإصلاح بين الحكومة السورية وتركيا، لكنهم يخشون من عواقب مطالبتهم هم أيضاً بتخفيف الوجود إذا خرج الأتراك. والإيرانيون، ودورهم كبير ولديهم ميليشيات أفغانية وباكستانية، وهم أكثر خشيةً من الروس من الانكشاف. من الذي سيفاوض على هذه الخروجات وترتيباتها؟
ولنقل إنه إلى جانب الحكومة السورية بعض الدول العربية مهتم بسلامة الأرض والدولة في سوريا. لكن هل يستطيعون الضغط على سائر الأطراف للانسحاب؟ وبأي الأثمان؟ يقول وسطاء دوليون إنّ تخفيف الوجود الإيراني في سوريا يخفف من الضغوط الإسرائيلية على هذا الوجود وعلى الحكومة السورية. لكن مَن يعلّق الجرس لشتى هذه التدخلات المتداخلة والمتناقضة؟ فحتى الانسحاب التركي إن كان، وهو لم يحصل بعد، أثار تظاهرات في أوساط المستفيدين من الوجود التركي في شمال سوريا.
ربما تكون المسألة السورية الأكثر تعقيداً من حيث تعدد الأطراف. لكنّ ليبيا لا تقل عن ذلك صعوبةً رغم عدم ظهور ذلك. ففي ليبيا أيضاً حكومتان وجيشان، ورغم أن الظاهرين في التفاوض كلهم من الليبيين، فإن وراء كل طرف أطراف خارجية وضغوط وتأثيرات، رغم تظاهر الجميع بالحرص على إجراء الانتخابات على سائر أنحاء الأرض الليبية. وفي ليبيا، خاصة في مناطق الغرب، ميليشيات مسلحة متعددة لا ندري مدى قدرة حكومة طرابلس على ضبطها أو إلغائها إذا حصل اتفاق وطني، أم يحتاج الأمر إلى معركةٍ أخرى مع الجيش الوطني إذا توحد! الاستقرار الآن مطلبٌ وهدفٌ وجوديٌّ في ست أو سبع دول عربية.
لكن يوماً بعد يوم، لا تعود الأطراف الداخلية وحدها هي التي تصنع التسوية والاستقرار بالداخل. التهديد بالتشرذم يدعو إلى التفكير في ذلك كله، ونحن ننتظر اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة!
* أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية