رغم تداعياتها الاقتصادية المؤثرة بقوة في الاقتصاد العالمي وفي اقتصادات الكثير من الدول، فإن الحرب الروسية الأوكرانية ما زالت تبحث عن الحل المناسب، وذلك لأن نهايتها ستفتح صفحةً تاريخية جديدة في العلاقات الدولية وفي موازين القوى، اقتصادياً وجيوسياسياً، فإما استمرار نظام القطب الواحد، وإما قيام عالم متعدد الأقطاب يضع قواعدَ وأسساً جديدة بدلاً من تلك التي اعتُمدت بعد الحرب العالمية الثانية والتي تجاوزها الزمن.
وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصعيداً جديداً، تمثل خصوصاً في النتائج التي تمخض عنها اجتماع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي عُقد في واشنطن الأسبوع الماضي، حيث تمت الموافقةُ على اعتمادات مالية كبيرة لأوكرانيا وتزويدها بطائرات حديثة لاستهداف الأراضي الروسية، وهو ما كانت تتجنبه دول «الناتو» حتى فترة قريبة، حيث جاء الرد من نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، قائلاً بأن روسيا بإمكانها الوقوف في وجه «الناتو» وأوكرانيا في نفس الوقت. ومع أن هناك حرباً إعلامية بين الطرفين، كما هي العادة في كافة الحروب، إلا أن ذلك يمكن تفسيره باحتمالين، إما أن الغرب لا يحتمل هزيمةً في أوكرانيا بدأت بوادرُها في الظهور، ومعها ستتم إعادة تشكيل العالَم، وإما أن هذه التصريحات النارية تسبق فترة المفاوضات لتقوية مركز كل طرف للخروج بحصيلة تحفظ له بعض مصالحه وماء وجهه، إذ يبدو أن ذلك هو الأقرب للواقع، وذلك ببساطة لأن المواجهة تعني نهاية العالم.
والاحتمال الثاني أقرب للواقع، لاعتبارات عديدة، فالعقوبات المفروضة على روسيا لم تترتب عليها نتائج ذات تأثير على الاقتصاد الروسي، والذي تمكن من التأقلم بسرعة، بدعمٍ من العلاقات القوية مع اقتصادات كبيرة، كالصين والهند، بالإضافة إلى التحالف مع دول مجموعة «بريكس»، حيث تشير البيات إلى ارتفاع قيمة صادرات النفط الروسية بنسبة 23% خلال في شهر يونيو الماضي، مقارنةً بنفس الشهر من السنة الماضية، وفق وكالة الطاقة الدولية.
كما أن صادرات الغاز الروسية لدول الاتحاد الأوروبي ارتفعت هي أيضاً بنسبة 25%، مما يعني أن القطاع الرئيسي للاقتصاد الروسي ما زال يعمل وينمو بصورة طبيعية، وذلك رغم أن المبيعات تتم بالروبل والذي يمكن الحصول عليه من البنك المركزي الروسي بعد استبداله بعملات عالمية أخرى. وبما أن سلاح العقوبات هو السلاح الرئيسي الذي اعتمدته دول «الناتو» لزعزعة الاقتصاد الروسي ولإجبار روسيا على إنهاء الحرب أو الانهيار الاقتصادي قد فقد تأثيره وأصبح عديمَ الجدوى، فإن البديل هو إنهاء الحرب من خلال مساومات سلمية تتحول معها أوكرانيا إلى دولة محايدة على غرار سويسرا والنمسا وتتمتع بعلاقات طبيعية مع كافة جيرانها، بما فيهم روسيا.
وبما أن المنتصر هو مَن يحدد شروطَ إنهاء الحرب، فإن ذلك يتطلب تنازلات صعبة، خصوصاً وأنه ستترتب على ذلك نتائج ومكاسب اقتصادية وجيوسياسية سيتم البناء عليها في الترتيبات لعالم ما بعد الحرب الأوكرانية الروسية والتي ستؤسس لعالم جديد متعدد الأقطاب لا مفر منه، بحكم موازين القوى الحالية.
واقتصادياً، فإن النظام العالمي الجديد سيكون مختلفاً عن عالم ما بعد الحرب الباردة التي انتهت قبل ثلاثين عاماً، حيث لن تكون هناك هيمنة لطرف دون غيره يستطيع أملاء شروطه وأنظمته على بقية دول العالم، بل سيكون نظاماً متعدد الأقطاب وأكثر عدالة، يتيح مجالات كبيرة لكافة الدول للتنمية، بما فيها البلدان النامية والتي ستتمكن من الحصول على عوائد عادلة لمبيعات ثرواتها الطبيعية مقارنةً بالأسعار الحالية المنخفضة، والتي لا تعكس قيمَها الحقيقية، علماً بأن قدرات كل دولة على الاستفادة من هذا التحول ستعتمد على مدى التزام قادتها بالإدارة الاقتصادية الصحيحة والمهنية بعيداً عن الفساد وسوء الإدارة.
ومع أنه تمت الإشارة هنا إلى الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب في بداية الحرب الأوكرانية الروسية، فإن ملامح هذا العالم أصبحت الآن أكثر وضوحاً بعد توسع مجموعة «بريكس» وانضمام دول مهمة إليها، وكذلك موقف الصين والهند والبرازيل الثابت تجاه هذا التحول ودعم أغلبية دول العالم لهذا الاتجاه بحكم تضررها من النظام الحالي.
*خبير ومستشار اقتصادي