كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قد اعتبر، في كتابه «الكلمات والأشياء»، أن مفهوم الإنسان دخل إلى الفكر الغربي خلال القرن الثامن عشر في سياق فلسفات التنوير التي كرست لأول مرة المنظورَ الإنتربولوجي الحديث، قبل أن «يموت الإنسان» ويخرج كلياً من حقل الدراسات الإنسانية.

وفي كتابه الجديد الصادر بالفرنسية تحت عنوان «مجيء الإنسان في الإسلام واختفاؤه.. من أثينا إلى بغداد»، يذهب هواري التواتي إلى أطروحة مغايرة، معتبراً أن النزعة الإنسانية لم تكن اكتشافاً أوروبياً في نهاية القرن الثامن عشر، بل تعود إلى العصر اليوناني مع أفلاطون ومن بعده التقليد الفلسفي والكلامي الإسلامي.

وفي محاورة «ألسيياد»، يتحدث أفلاطون عن معرفة الإنسان لذاته شرطاً لممارسة السياسة وبلوغ العدالة، وهي مقاربة شغلت فلاسفة الإسلام ومفكريه في العصور الوسيطة، كما بين محمد أركون في كتابه الشهير حول «النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري». ما يوضحه التواتي هو أن «علم الإنسان» تحول في التقليد الإسلامي الوسيط إلى نمط من الممارسة المعرفية المستقلة، حتى ولو كان في الأصل امتداداً للعلم الإلهي. والأمر هنا يتعلق بتحول إنتروبولوجي نوعي، يتجسد في كون الإنسان لم يعد يحدد بالامتثال للمعايير الأخلاقية المطلقة التي يضعها الشرع، بل بكونه فرداً عاقلاً وقادراً بنفسه على التمييز بين الخير والشر، ومؤهَّلا بذاته لتعيين منزلته المتميزة عن نظام الطبيعة.

وقد ظهر هذا التوجهُ مبكراً لدى الفلاسفة من طينة الفارابي وابن سينا في تفكيرهم الأخلاقي المتمحور حول السعادة والفضيلة والتدبير العقلي للوجود في أبعاده الأخلاقية والمدنية. لكنه ظهر أيضاً في المباحث الكلامية، وبصفة خاصة لدى المعتزلة في قولهم بالتحسين العقلي وبنظرية الطبائع حيث يقول الجاحظ مثلاً إن «المعارف تحصل بطبع المحل عند النظر، وإن أفعال العباد كلها طبيعية لا كسب فيها». بيد أن التواتي يرى أن الإنسان اختفى في التقليد الأشعري الذي يرى أنه ألغى التعريف الطبيعي العقلاني للإنسان، معتبراً أن الإنسان ليس سوى البنية الخاصة للجسم، وبالتالي ليس له جوهر نفسي أو روحي، بما يبطل كل دلالة فعلية للإرادة البشرية الحرة والمستقلة.

ومن ثم لا معنى لأي علم طبيعي للإنسان، لكونه فاقداً لأي وحدة داخلية. لا شك في أن أطروحة التواتي مهمة وتستحق المتابعة، وقد وُفِّقت في رصد تشكل النزعة الإنسانية في التقليد الإسلامي الوسيط، في امتدادٍ للفكر اليوناني الذي انتقل مع أفلاطون من محورية الطبيعة إلى محورية الإنسان. وقد يكون فوكو نفسه انتبه إلى هذه الإشكالية في أعماله الأخيرة حول «الاهتمام بالذات»، والتي تركزت حول أخلاقيات الرغبة في العصر اليوناني الكلاسيكي.

إلا أن الاختلاف الحقيقي مع أطروحة التواتي يتعلق بقراءته للأشعرية التي اعتبر أنها في نزعتها الطبيعية الحسية ألغت المسألةَ الإنسانية التي برزت في الفكر الاعتزالي. ما نريد أن نبيّنه هو أن الخطوة الأشعرية الكبرى تتمثل في الانتقال من النظرة الكيفية المعيارية للطبيعة إلى التصور الرياضي الكمي الذي يلغي كل المضامين الجوهرانية الأنطولوجية في الكوسموس المادي.

وما تؤسس له هذه القطيعة هو النظرة الغرائزية النفسية للإنسان من حيث هو كائن تحركه نوازع وأهواء دافعة ليس العقل سوى أحد مكوناتها الفاعلة. ولا يختلف هذا التصور الأشعري في جوهره عن فلسفات العصر الأوروبي الحديث في فهمها الجديد للعقل الذاتي لا بصفته جوهراً وجودياً أو قوةً ناطقةً للنفس، بل من حيث هو إرادة مستقلة عن الطبيعة قادرة على السيطرة عليها والتحكم فيها.

لقد كُتب الكثير عن «الكسب الأشعري» الذي اعتُبر تكريساً للعقلية الجبرية ونفي الحرية الإنسانية، لكن الصحيح هو أنه بإلغائه أطروحةَ النظام الضروري للطبيعة وتأكيده المشيئة الإلهية المطلقة، حرَّر الفعلَ الإنساني مِن إكراهات الطبيعة التي قيدت الإرادتين الإلهية والبشرية معاً في المنظومة الاعتزالية.

ليس الغرض هنا حسم الجدل الكلامي القديم حول خلق الأفعال، من حيث كونه جدلاً لسنا طرفاً فيه ولا معنيين به الآن هنا، بل التنبيه إلى أحد الاختلالات السائدة في الفكر العربي المعاصر في نظرته الزائفة حول العقلانية الاعتزالية وما يزعم لها من مضامين ليبرالية إنسانية. خلاصة الأمر، أن النزعة الإنسانية تنتمي إلى تراث التنوير والتحديث الأوروبيين، لكن التقليد الكلامي الإسلامي لم يكن عائقاً دونها، وفي الأطروحة الأشعرية على الخصوص ما يمكن اعتباره من الإرهاصات الممهدة لها.