فيما مضى من الحقب الزمنية السابقة، ابتُليت الأمتان العربية والإسلامية بظهور ما يسمى تيارات وجماعات ومجاميع «الإسلام السياسي»، حيث بدأت هذه الكيانات الشيطانية تملأ الفضاء العام بالفتاوى «الدينية» والإرشادات «الشرعية» والبيانات والخطب التحشيدية.. بدعوى الدفاع عن الإسلام ومقدساته، وكأن شعوب الأمتين العربية والإسلامية قد اكتشفت الإسلامَ لتوها فقط. ولم تفتأ تلك التيارات والجماعات والمجاميع تدعو صراحةً وبشكل علني أحياناً، وضمناً وبشكل مستور ومضمر أحياناً أخرى، إلى التشدد والغلظة والتكفير والتطرف وممارسة العنف واعتناق مذهب الموت والقتل وسفك الدماء.. أي إلى الخروج على المجتمعات والأنظمة والحكومات العربية الحاكمة، ملفِّقةً مِن عندها تُهماً ضد الشعوب والدول الإسلامية بالتخلي عن الإسلام وثوابته العقدية والشرعية، داعيةً إلى الحروب على الأوطان وأهلها وعلى الآخر الأجنبي.
وكما نظرت هذه المجاميع المتطرفة إلى المجتمعات كما لو أنها خارج الملة، فقد زعمت أن أي نوع من علاقات التعاون مع الآخر الأجنبي هو بمثابة خيانة للدين، في مروق تام من جانبها على العقل والمنطق ومبادئ السياسة الشرعية كما رسمها فقهاء الأمة منذ قرون طويلة. لقد تنادت مجاميع التطرف إلى القتال والقتل ضد الجميع، الأجانب وغير الأجانب، مطلِقةً العنانَ لخطاباتها الإنشائية المؤدلجة التي سُفكت بسببها دماء زكية غزيرة وأرواح بريئة كثيرة وتلوثت عقول كانت سليمة ومعتدلة فتحولت فجأةً إلى معاداة الأوطان والمجتمعات.. وأصبح الضحايا آلاف الشباب المغرَّر بهم جراء ما تعرضوا له من تلوث فكري وانحراف عقلي!
وحين وقعت الحرب في غزة ورفح وقُتل هناك قرابة أربعين ألف عربي ومسلم، من الرجال والنساء والأطفال، وتعرضت للتدمير بيوتُهم وأحياؤهم السكنية ومرافقهم الخدمية.. لم نسمع صوتاً واحداً من تلك الجماعات المتطرفة والتيارات المتشددة والمجاميع الإرهابية يعلن النفير للدفاع عن جزء من أرض العرب والمسلمين لعله يفوز فيها «بإحدى الحسنيين» وينال «الحور العين»، أي الجائزة التي كثيراً ما أغرَوْا بها الشبابَ واستدرجوهم بها إلى شراكهم، كما لو كانت الجنةَ والنار مُلكاً لهم. ولطالما صدعوا رؤوسنا بخطاباتهم الدينية المتشددة ومنابرهم الإعلامية الكثيرة وأصواتهم العالية المخالفة للواقع والمنطق.. لكنهم اختفوا وصمتت منهم الأصوات والخطابات والمنابر أمام هذا الحدث الجلل، رغم دمويته ومآسيه التي أثارت فزع العالمَ كلَّه. أين ذهبت صيحات أولئك المحرضين على الدوام؟
وماذا عن حماسهم ومبادئهم وتضحياتهم التي كثيراً ما ادعوها وتظاهروا بها؟ يبدو أن كل ذلك يتلاشى حين تأتي لحظة الحقيقة، أي اللحظة المطلوبة للفعل والتضحية.. فيتحولون إلى «قطط أليفة»، مسالمين ومهادنين تحت أعذار ومبررات وحجج واهية لا علاقة لها لا بالواقع ولا بالشرع. في لحظة الحقيقة يَلبسهم الصمتُ المطبق والاختفاء التام خلف أجنداتهم المشبوهة التي تدار من وراء الستار، والتي يأتمرون بها وينصاعون لها، محوِّلين منابرَهم وفتاواهم إلى النصح والموعظة، أو ينشغلون بأحداث أخرى يحاولون من خلالها تحويل الأنظار عن موضوع الساعة الأهم، وقد يكتفون بالدعاء العام: «أن ترفع هذه الغمة عن الأمة»! وحين تستقر أمور الأمة وتبدأ التعافي مِن جراحها وأزماتها، لكي تتفرغ للتنمية والنهوض والإعمار وتطوير بُناها التحتية، تثور ثائرة التيارات المتشددة والجماعات المتطرفة والمجاميع الإرهابية، وتتحرك حميتُها دفاعاً عن الدين وحمايةً للمقدسات! يتحولون عندها إلى معول لهدم البلدان العربية والإسلامية، عبر ممارستهم العنفَ والتكفير والقتل والإرهاب!
وباستخدام التفجيرات والقنابل والأحزمة الناسفة، ينتقمون من بني جلدتهم.. يقتلونهم في المساجد ومدارس الأطفال، مُدَّعين أن ذلك تضحية في مواجهة المتخاذلين والمفرِّطين، حسب مزاعمهم الكاذبة واعتقاداتهم الفاسدة، والتي كشفتها الممارسات الدموية المسجلة باسمهم حصرياً!
* كاتب سعودي