ودّع النّاس، قبل أيام، حدثاً ما زال يتكرر مذ أذّن نبي الله إبراهيم في النّاس بالحج، فجاؤوه من كل فج عميق. فما الذي حمل النّاس على تأبيد هذه الشعيرة على مرّ العصور، وكأنها تجربة حاضرة بحرارتها الأولى، رغم كثرة الفترات الخالية من نبوة ولا رسالة؟.
يرى بعضهم أن شعائر إبراهيم طقوس مكررة لا تتميز عن غيرها من شعائر نحل أخرى، فالناس ترتدي البياض، وتطوف، وتسعى، وتصلي، وتقف، وترمي، وتذبح.
أولاً، لعلّة ما كان الحجُّ الفريضة الوحيدة غير الملزمة، لتوقّفها على شرط الاستطاعة، بخلاف غيرها من فروض العبادات.
ثانياً، الحج آيات، ومحطات، ورمز كبير، تحكي بلاد مكة، حيث شعائر الحج، آياتُها التي لا تخطئها العين، من أهمّها أنه مستقرُّ أول بيت وُضع للنَّاس، بناه آدم، ورفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، ولا يزال موضعه يثير العجب، وأفئدة الناس تهوي إليه. وله عند أول رؤية هيبة، وعند آخر رؤية حسرة. وناهيك بشخص يزور مثل هذا البيت وتقف ذاكرته عند بداية التاريخ الإنساني غير المكتوب على ظهر الأرض، لتمتد عبر الزمان تقرأ الأحداث المتعاقبة على البيت، وما رافقها من سياقات تاريخية تجعل العقل أكثر استنارة لفهم الحاضر المعقد.
وفي آية هاجر ورضيعها إسماعيل عبرةٌ تجدد، إذ بهذا الرضيع الضّعيف، وأمّه العزلاء، أينعت بلادُ الحرمين بعمرانها البشري، وأصبحت لها عبر التّاريخ صولة وجولة، وتبوأت مكانتها التي لا تزال لها إلى اليوم.
شعائر الحج آيات ومحطات تاريخية شكلت البدء والأصل، ومن يتبيّن أغوارها يجدها متّصلة بمسيرة الإنسان، وكشف الأسرار التي تكمن وراء التّغيرات الكبرى التي عرفتها مسيرة الإنسان في ارتباطها بحدث بناء البيت، ومسيرة إبراهيم.
إن إبراهيم، عليه السلام وذريّته، هم في قلب شعيرة الحج، ولعل من هنا انبثق رمزه الأكبر، رمز رياضة النّفس والخروج عنها، فليس الحج إلا خلعاً للبدن. ومسيرة إبراهيم نفسه لم تكن سوى مسيرة خلع البدن، بدأها وهو يُلقى في النّار، وختمها وهو يهمّ بذبح فلذة كبده، مسيرة إبراهيم الحياتية المجسّدة لمساعي الترقي في كمال إنساني بالتحرر من الجسد ومُتعلَّقاته، من أجل كمالات الفكر بالمعقولات، والوصال مع روح هذه الكون وجوهرها الخالص؟ ذلك ما سعى إليه إبراهيم حتى سُمِّي بـ «الخليل»، ودرجة الخُلّة أعلى درجات الوصال.
إن تجربة الحجّ هي تجربة التجرد من الدّنيا، إنها تجربة الإنسان الذي يتجدّد باستمرار في مسيرته نحو فطرته الأولى، وهو في تجدّده لا يسعى إلى بلوغ شيء خارجه، إنه يسعى فقط إلى إدراك نفسه التي بين جنبيه والتّصّالح معها لبلوغ درجة النّفس المطمئنّة التي يرقى بها إلى كمالاته المنشودة، لعله يدرك، بعد ذلك، شيئاً من الخُلّة. ومن يدري فلعله تحت شجرة إبراهيم الوارفة استظل كل الفلاسفة القدماء، ولعله سرّ دعوة النّاس جميعهم إلى ممارسة شعيرة الحج.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية
بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية