تشكل متابعة الارتفاعات الخيالية في أسهم شركات التقنيات المتقدمة أهميةً بالغة، ليس للمساهمين من المؤسسات الاستثمارية والأفراد فحسب، وإنما أيضاً للدول وصناديقها السيادية وصناديق التقاعد والاستثمارات. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية تضاعفت أسهم بعض هذه الشركات بشكل مبالغ فيه أحياناً.
وهنا سنتطرق إلى جانبين؛ الأول كثافة الأموال المتدفقة على شراء أسهم شركات التكنولوجيا المتقدمة، أما الثاني فيتعلق بانعكاسات ذلك على حجم الاستثمارات الأخرى، سواء داخل الولايات المتحدة التي تأثرت بعض قطاعاتها الأخرى، أو خارجها. وهذا علماً أن معظم شركات هذه التقنيات تتركز في الولايات المتحدة أساساً.
لقد ساهم عاملان في تضخم أسعار أسهم هذه الشركات، إذ يكمن العامل الأول في سياسة التسيير الكمي، والتي أدت إلى طباعة ما يقارب 4 تريليونات دولار منذ فترة جائحة كورونا، ووفرت سيولةً نقديةً كبيرة في الداخل الأميركي لم تجد لها منافذ استثمارية مناسبة، إذ اتجهت أساساً نحو أسهم شركات التكنولوجيا، وضاعفت من أسعارها مرات عدة. أما العامل الثاني والأكثر خطورة، فيكمن في تدفق الكثير من الاستثمارات الخارجية لسوق الأسهم في «وول ستريت»، في محاولة لتحقيق أرباح كبيرة وسريعة، وبالأخص بعد سرعة ارتفاعات الأسهم ضمن «سياسة القطيع» المعروفة في الأسواق، ما سيؤدي إلى فقدان بعض الدول استثمارات كبيرة، هي بأمس الحاجة إليها لاستثمارها محلياً لتنفيذ العديد من المشاريع التنموية، وتوفير الكثير من فرص العمل، ما سيترك آثاراً سلبية كبيرةً على اقتصادات هذه الدول، وبالأخص الفقيرة منها، إذ إن هذه الاستقطابات تشمل استثمارات القطاعين الخاص والعام.
وبالتأكيد يقوم المضاربون بتأجيج حمى هذه الارتفاعات التي تؤدي إلى دخول المزيد من المستثمرين، وتغير ترتيب شركات التكنولوجيا من حيث القيمة السوقية بصورة دورية وسريعة نسبياً، حيث إزاحة شركة «انفيديا» الأسبوع الماضي شركة «مايكروسوفت» من المركز الأول، بعد أن ارتفعت قيمتُها بمبلغ تريليوني دولار خلال هذا العام فقط لتصل إلى 3.34 تريليون دولار، ومن ثم انحفضت بنسبة كبيرة بلغت 12.9% بقيمة 430 مليار دولار في الأيام الثلاثة الماضية.
صحيح أن هذه الشركات تهيمن على الأسواق حالياً، ولديها آفاق مستقبلية واعدة بفضل عملها واختراعاتها للتقنيات والاستخدامات المتطورة، بما فيها الذكاء الاصطناعي. إلا أن الارتفاعات المتنامية في أسعار أسهمها لابد في الوقت نفسه أن تتناسب وأوضاعها وقدراتها المالية، حيث إن هناك الآن فجوة بين هذين العاملين، وهو ما يدق ناقوس الخطر من إمكانية تكوّن فقاعة تهدد أكبرَ اقتصاد في العالم، وكذلك الاقتصاد العالمي ككل، كما حدث عندما انفجرت فقاعة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام 2008 وتسببت في أزمة مالية عالمية ما زالت بعض تداعياتها مستمرة وعالقة في الأذهان.
وكما هو معروف، فإن بعض الصناديق السيادية والاستثمارية الخليجية والعربية تملك استثمارات مهمة في شركات التقنيات، حيث ارتفعت هذه المساهمات بصورة كبيرة، وبالأخص بعد أن حققت إحدى المؤسسات الخليجية أرباحاً بحجم 7 مليارات دولار في بداية الارتفاعات، ما أغرى بعض المؤسسات الأخرى بانتهاج التوجه نفسه رغم مخاطره المحتملة عند الوصول لنهاية الخط. ولمزيد من التوضيح، فإن المطلوب ليس تجاهل الاستثمار في شركات التقنيات المتقدمة، إذ إن هذه الشركات هي شركات المستقبل، إلا أن المطلوب هو الحذر من خلال المتابعة والالتزام بسياسة استثمارية متحفظة في هذه الأسهم مع تقدير المخاطر المحتملة، ووضع برنامج للتخارج في الوقت المناسب، مع الحرص على تحديد نسبة من إجمالي استثمارات كل مؤسسة لشراء أسهمِ شركاتِ التقنية، وعدم تجاوز هذه النسبة لتقليل المخاطر، علماً أنه يمكن تجاوز الفقاعة الجديدة إذا ما استمر الاقتصاد الأميركي في النمو بمعدلات عالية نسبياً، كما هو الآن، إضافة إلى أن تخفيضات معدلات الفائدة المتوقعة هذا العام والعام المقبل، والتي ستدعم البورصات، وذلك إلى جانب التوقعات الخاصة بالانتخابات الأميركية، والتي ستجد لها بدورها انعكاسات على الأسواق المالية والسياسات الاستثمارية بشكل عام.
*خبير ومستشار اقتصادي