لا أعرف لماذا انتظرتُ ردة فعلٍ غربية أقوى على زيارة بوتين لكوريا الشمالية. الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش استنكر الزيارةَ، وبخاصة نواحيها الأمنية والعسكرية وذكر العقوبات! وبالطبع ليست الزيارة أولى «المخالفات» بحسب رؤية الغرب، وإنما هي إحدى نتائج الحرب في أوكرانيا والتفاف الغرب الأطلسي من حولها دون أن يستطيع ترجيح الكفة أو إحداث التوازن. لكن زيارة بوتين تبقى مفارقة لأن موسكو أيام الاتحاد السوفييتي كانت هي التي تُزار.

والمفارقة الأخرى أن الرئيس بوتين صار يدعو في كل مناسبة لتعدد الأقطاب باعتبار ذلك إصلاحاً للنظام الدولي الذي يسيطر عليه الأميركيون، وما كان ذلك توجه الروس أيام الثنائية القطبية! ومن الجهة الأخرى يحاول الأميركيون والأوروبيون محاصرةَ روسيا بعد أن كفّوا عن استيراد البترول والغاز منها، وإعاقة صادراتها الأخرى إلى الخارج.

وهم يقولون إنهم أثروا كثيراً، بينما يفتخر الروس بأنهم تجاوزوا الحصارَ ولا يزالون فاعلين في المجال العالمي، وليس بسبب الانفتاح الصيني عليهم، بل مع الهند وأفريقيا. ومتاعب الأميركيين في المجال العالمي تضاهي المتاعب الروسية وتفوقها. وعلى كل حال تعتبر الولايات المتحدة موقعها ودورها أو أدوارها في العالم أهمّ وأقوى بكثير. ولذا فهي تناضل، بل توشك أن تقاتل على ثلاث جبهات، فضلاً عن تدخلاتها المتنوعة في عدة أماكن. وهي تقود أوروبا والأطلسي في مساعدة أوكرانيا بالسلاح والتدريب والأموال. وهي تتدخل بالأساطيل وقوات الجو في بحر الصين الجنوبي «دفاعاً عن تايوان»، وتوثق علاقاتها العسكرية باليابان وأستراليا. والجبهة الثالثة في الشرق الأوسط لحماية إسرائيل ودعمها وفي الوقت نفسه الحيلولة دون اندلاع نزاعٍ أوسع من حول إسرائيل تشارك فيه مليشيات ودول إقليمية.

إنّ الجديد في الصراعات الجارية أمران: العجز الأميركي عن حسم النزاعات، وتعطل النظام الدولي (من خلال مجلس الأمن) عن الوساطة في النزاعات وتهدئتها. الباحثون الاستراتيجيون يتحدثون منذ عقدين عن «عالم ما بعد أميركا» أو حتى عن انهيار الغرب (إيمانويل تود). ويتمثل ذلك من وجهة نظرهم في الزيادة المطّردة للقوة الاقتصادية للصين، وزيادة قدراتها العسكرية، فضلاً عن بروز قوى تستطيع الصمود وتقوم بتدخلات لحسابها، ومسارعة عدة دول في غرب أفريقيا وفي أميركا اللاتينية للتمرد على الولايات المتحدة غير عابئةٍ بسطوتها الحالية! والأميركيون مِن جانبهم صاروا أكثر تواضعاً بعد الخيبة في أفغانستان والعراق. فقد انسحبوا مع فرنسا أو بعدها من غرب أفريقيا، ويصرون على سياسة «الاحتواء» تجاه إيران، رغم الهجمات التي يتعرض لها الجنود والمصالح الأميركية في العراق وسوريا واليمن والبحر الأحمر.

ورغم ذلك كله تذهب الولايات المتحدة إلى أن النزاع في اليمن داخلي (!)، وأنه يمكن الاتفاق مع إيران على التهدئة والنظر في المطالب. الفوضويات والانشلالات والتصدعات والمجاعات والهجرة هي السائدة، وقد تعبت كل الأطراف من عمليات «عض الأصابع»، لكنّ أحداً لا يريد الاستسلام، ويأمل أن يتنازل الآخر. ولذا تمتد المواجهات إلى مجلس الأمن الذي نادراً ما يستطيع إصدار قرار بسبب الانقسام. وفي المدة الأخيرة – وبعد فوات الأوان- وافق المجلس على مشروع أميركي لوقف إطلاق النار في غزة. بيد أن الطرفين لم يوافقا بعد، رغم خطة بايدن السابقة أيضاً لوقف النار. الجميع متعبون من القتل والدمار والترويع والتصعيد.. بيد أنّ أحداً لا يريد التنازل أولاً!

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية