تشير معظم التقييمات إلى أن الاقتصاد الأميركي مزدهر. والحقيقة أن معدلات النمو وأرقام البطالة المنخفضة في أميركا جيّدة لدرجة تغبطها عليها معظم البلدان في أوروبا وآسيا، بما في ذلك الصين واليابان والهند، غير أنه على الرغم من هذه الأرقام الجيدة، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أن غالبية الأميركيين يعتقدون أن البلاد «تسير في الاتجاه الخاطئ»، وأن المواطنين الأميركيين ما يزالون قلقين بشأن التضخم ومستقبلهم المالي.
جزء من المشكلة يكمن في أن التضخم، وعلى الرغم من أنه في انخفاض، إلا أنه ما زال أعلى بنسبة 2 في المئة مما كان عليه قبل عدة عقود. فخلال تلك الفترات، ظلت أسعار معظم المواد الغذائية والمواد الأساسية الأخرى مستقرة بشكل عام، وكان الاستثناء هو الطفرات الدورية في أسعار البنزين بسبب النقص المؤقت في العرض، لكن أسعار البنزين كانت تنخفض دائماً، وقياساً بالاتجاهات طويلة الأجل، تظل أسعار البنزين في الولايات المتحدة منخفضة عموماً بالقياس إلى الدول الصناعية الأخرى.
ومن الأسباب الأخرى التي تجعل الأميركيين غير منبهرين بإنجازات إدارة بايدن الاقتصادية، أن تشريعه الاقتصادي الأهم، أي «قانون خفض التضخم» لعام 2022، يتضمن مليارات الدولارات التي رصدها للإنفاق على مشاريع البنية التحتية، بما في ذلك الجسور وشبكات السكك الحديدية والمطارات والطرق والممرات المائية وشبكات الكهرباء وتوسيع إمكانية الوصول إلى شبكة الإنترنت. كل هذه المشاريع ستوفّر في نهاية المطاف آلاف الوظائف الجديدة.. لكنها، وعلى غرار كل مشاريع البناء والتشييد الكبرى، تتطلب شهوراً وسنوات من الأعمال التحضيرية، وهو ما يعني أن الوظائف الجديدة لن تظهر بين عشية وضحاها. هذه المشاريع الجديدة تتوزع على معظم الولايات، لكنها توجد في مراحل مختلفة من التطوير. ولهذا، فمن غير المعروف ما إن كان وقع هذه الوظائف الجديدة على الناخبين والاقتصادات المحلية سيكون واضحاً ومحسوساً قبل الاستحقاق الانتخابي للتأثير على الانتخابات الرئاسية لهذا العام. وفي الأثناء، يُنتقد مستشارو بايدن بشدة بسبب ما يراه بعض الأميركيين أداءً ضعيفاً من جانبهم في الترويج للتقدم الذي أحرزوه في التعافي الناجح من أزمة «كوفيد -19».
ومن جهة أخرى، يتعرض مستشارو بايدن لانتقادات شديدة من «الجمهوريين» الذين يركزون على أزمات سوق السكن والتشرد والجريمة. ولعل الأهم من ذلك كله هو تلقيهم سيلاً هائلاً من مقاطع الفيديو التي تُظهر تدفقاً لا متناهياً للمهاجرين غير الشرعيين على البلاد، مهاجرون يمكن إيجادهم الآن في المدن الكبرى، بالإضافة إلى المخيمات على طول الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك.
ومن العوامل الأخرى التي تزيد من الشعور العام بالكآبة لدى العديد من الناخبين الأميركيين، توقعاتهم المنخفضة بأنه على الرغم من قوة الاقتصاد، فإن هناك احتمالا ضئيلا للعودة إلى «أيام الرخاء السابقة» حينما كانت كثير من الوظائف ذات الأجور الجيدة تقرن بخطط صحية ومزايا سخية، بما في ذلك معاش تقاعدي مدى الحياة حين يحال المرء على التقاعد. واليوم، يؤدي ارتفاعُ تكلفة السكن إلى صعوبة اقتناء الشباب بيوتاً خاصة بهم. وهناك شعور بعدم الارتياح إزاء الطبيعة الحزبية المتعصبة بشدة للمجتمع الأميركي المعاصر. كما أن هناك شعوراً بأن أيام التسويات والتوافقات السياسية قد ولّت. واستطلاعات الرأي تعكس هذا القلق الذي يشير بشكل متزايد إلى أن عدداً كبيراً من الناس لا يرغبون في التصويت لبايدن ولا لترامب.
والحق أن مشاعر خيبة الأمل ليست حكراً على أميركا وحدها، شأنها شأن الانقسام المتزايد الذي تتسبب فيه السياسة. وعلى سبيل المثال، فإن انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة أظهرت ميلاً نحو اليمين. وهناك القليل من الحماس في بريطانيا التي ستصوّت يوم 4 يوليو لزعيم حزب العمال كير ستارمر أو لزعيم حزب المحافظين ريشي سوناك. وفي الهند، كان ناريندرا مودي يأمل بتحقيق فوز كبير في الانتخابات الهندية الأخيرة، لكن أغلبيته البرلمانية تقلصت بشكل ملحوظ.
غير أن ما يقلق العديد من مراقبي الحياة السياسية الديمقراطية المعاصرة هو التأثير الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الرقمية الحديثة التي باتت تسهّل نشر «الأخبار الكاذبة» التي أصبحت أكثر واقعيةً بفضل برامج الذكاء الاصطناعي الجديدة، وهو ما سيجعل الانتخابات أكثر عرضةً للتلاعب ونشر الأكاذيب الصريحة. هذا الأمر قد يجعل نتائج الانتخابات محل تنازع مرير مرة أخرى، وهذا ليس مؤشراً جيداً على الحكامة الجيدة، بل العكس تماماً!
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز ناشيونال إنترست - واشنطن