حينما فرضَ رسوماً جمركية بنسبة 100% على بعض الواردات الصينية الشهر الماضي، أثار الرئيس جو بايدن موجة جديدة من التساؤلات والتكهنات الدولية ومن ذلك: هل باتت العولمة في تراجع؟
الواقع أن حصة التجارة من الناتج الاقتصادي العالمي تقلصت. و«السياسة الصناعية»، التي ترمي إلى تعزيز بعض الصناعات المحلية على حساب المنافسين العالميين، باتت في ارتفاع، ولاسيما في البلدان الغنية. ومنذ قرابة عقد من الزمن، أخذ الناس يتحدثون عن تباطؤ العولمة. 
غير أن هذا الاتجاه قد لا يشير إلى تباطؤ العولمة، بقدر ما يشير إلى إعادة تقويم اقتصادي لصالح تعزيز المرونة المحلية، ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى ضعف وهشاشة سلاسل التوريد التي كشفت عنها الجائحة والحرب في أوكرانيا. هذا علاوة على قلق صناع السياسات بشأن تغير المناخ وعدم المساواة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، يقول كيفن جالجر، مدير مركز سياسة التنمية العالمية في جامعة بوسطن: «إن التشرذم خطر كبير على صحة الاقتصاد العالمي»، ولكنّ «هناك إجماعاً الآن على أن (العولمة المفرطة)، التي بموجبها كانت الأسواق الحرة وغير المنظمة هي القاعدة، كانت مضرة بقضية بناء اقتصادات منخفضة الكربون ومتساوية اجتماعياً تتسم بالقوة والمرونة». 
و«السياسة الصناعية» مصطلح عام يشمل السياسات التي تهدف إلى تطوير قطاعات معينة من الاقتصاد من أجل تحقيق أهداف الحكومة. ويمكن القيام بذلك بطرق عدة، بما في ذلك من خلال استخدام الإعانات والمزايا الضريبية ووسائل الحماية التجارية. وقد نضجت معظم الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا في القرن التاسع عشر، واليابان والصين في القرن العشرين، بفضل السياسة الصناعية. ولكن في ثمانينيات القرن الماضي، ومع انتشار العولمة، أصبحت العديد من الحكومات تنظر إلى السياسة الصناعية على أنها عقبة أمام التجارة الحرة والأسواق الحرة، فتبنّت نهج عدم التدخل.
ولكن في السنوات الأخيرة، لوحظت حركة في الاتجاه المعاكس.
وفي هذا السياق، يقول جاري هوفباور، زميل معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن: «الآن في الولايات المتحدة، بات كلا الحزبين الرئيسيين حزبي حماية، وكل ما هناك أنهما يغنيان ألحاناً مختلفة قليلاً»، مضيفاً: «وهذا له تأثير حول العالم».
في الماضي، كانت السياسة الصناعية تركز على التصنيع التقليدي وتعزيز النمو الاقتصادي. ولكنها اليوم باتت تتعلق أكثر بتشجيع التصنيع الأخضر، وتأمين سلاسل التوريد، والحفاظ على القدرة التنافسية في مجال التكنولوجيا – وخاصة في الصناعات المتعلقة بالدفاع والأمن القومي. إذ أجبر إغلاقُ الحدود أثناء الجائحة صنّاعَ السياسات على إعادة تقييم اعتمادهم على سلاسل التوريد الدولية الهشة، وخاصة في مجالات أشباه الموصلات والبطاريات الكهربائية والمعادن المهمة. كما سعت أوروبا إلى تحقيق الاستقلالية عن إمدادات الطاقة الروسية بعد حرب أوكرانيا. وفي الأثناء، تسعى الحكومات إلى أن تكون في مقدمة الثورة التكنولوجية، وضمان توفير وظائف محلية جيدة في الوقت نفسه.
وتُعد الرسوم الجمركية الأخيرة التي فرضها بايدن مثالاً على ما سمّاه الاقتصاديون «إعادة التوزيع الكبير» للتجارة بعيداً عن الصين، إذ تسعى الولايات المتحدة إلى فصل اقتصادها عن الصين وبناء قطاع التصنيع الأخضر الخاص بها. ويقول آدم هرش، كبير الاقتصاديين في معهد السياسة الاقتصادية في واشنطن، إن الاستثمارات المطلوبة للتحول الأخضر «مليئة بإخفاقات السوق»، مضيفاً: «ولهذا، يجب أن يكون لدينا نوع من التدخل العام إذا كنا نرغب في رؤية هذا التغيير». 
من «قانون الحد من التضخم» و«قانون تشجيع صناعة أشباه الموصلات» في الولايات المتحدة إلى «الصفقة الخضراء» في أوروبا، وحملة «صنع في الصين» في بكين، ورؤية كانبيرا لـ «مستقبل مصنوع في أستراليا»... يعمل السياسيون على حماية اقتصاداتهم من عدم الاستقرار العالمي والضغوط الداخلية. ويقول فريدريك إريكسون، مدير المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي في بروكسل: «لقد تغيّرت نبرة الحوار بشكل جذري»، مضيفاً: «هناك أهمية متزايدة لمقترحات السياسات التي يمكن وصفها بأنها تعزز السيادة الاقتصادية وتحدّ من التبعية». 
في البلدان الغنية، «الرابح» هي الصناعات المفضلة، التي تتركز الآن في القطاعات منخفضة الكربون وقطاعات التكنولوجيا الفائقة والعاملين فيها. أما «الخاسرون»، فهم المستهلكون والشركات الذين يدفعون أسعاراً أعلى نظير سلع أُنتجت محلياً ولكن بتكلفة أعلى. ففي حالة السيارات الكهربائية مثلاً، تبلغ كلفة سيارة «بي واي دي سيجل» 10 آلاف دولار في الصين. هذا في حين يمكن للمستهلكين في الولايات المتحدة أن يتوقعوا دفع ثلاثة أضعاف هذا المبلغ مقابل سيارة كهربائية. 
وفي غياب اتفاقيات عالمية متفاوض عليها، فإن الدول النامية تخسر أيضاً، ذلك أن السياسة الصناعية مكلفة، والبلدان الفقيرة «لا تملك القوة المالية لتضارع... الغرب»، يقول البروفيسور جالجر، مما يجعل من الصعب عليها أن تصبح منتجة للتكنولوجيا التي ستدعم اقتصاد المستقبل.
باختصار، لا. فصحيح أن العولمة ربما بدأت تتخذ شكلاً جديداً في وقت تعيد فيه الحكومات ترتيب أولوياتها المحلية، ولكن العالم ما زال أكثر ترابطاً وليس أقل ترابطاً. ويقول إريكسون في هذا الصدد: «إن العولمة تعمل اليوم بطرق مختلفة»، مضيفاً: «باتت تركز بشكل أكبر على الخدمات، والاتصال الرقمي، والأفكار والتطبيقات التكنولوجية التي تتدفق عبر الحدود، ورأس المال البشري». 
غير أن التشرذم الاقتصادي يبعث على بعض القلق. فصحيح أن الرسوم الجمركية قد تكون منخفضة بالمعايير التاريخية، ولكن القيود التجارية ازدادت بنسبة 500 في المئة عبر العالم بين 2015 و2023. وإذا ما تواصل هذا الاتجاه، فإن التكاليف بالنسبة للاقتصاد العالمي قد تصل إلى 7 تريليونات دولار مع مرور الوقت، أو نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقاً لتقدير موظفي صندوق النقد الدولي العام الماضي.
غير أنه حتى الآن، يظل تأثير التحول نحو السياسة الصناعية طفيفاً نسبياً حتى الآن، إذ تُنفق الدول الأكثر تبنياً لهذا النوع من السياسات، باستثناء الصين، ما يقدّر بنحو 0.3% إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي على المبادرات.
ويضيف إريكسون قائلاً: «هناك اتجاهات حمائية، ولكنها لن تجرّد العولمة من جاذبيتها في الحقيقة». 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور