من ربيع 2014 وحتى صيف تلك السنة القائظ، عبر عشرات الآلاف من الأطفال الحدودَ الأميركية المكسيكية إلى ولاية تكساس من دون آبائهم.
وسائل الإعلام الدولية بثّت صوراً لأطفال محشورين ومكدسين في أماكن احتجاز أشبه بالأقفاص تابعة لحرس الحدود الأميركي مبرَّدة بالمكيّفات الهوائية لحد الإفراط ومقسَّمة بسياجات حديدية. الأطفال الصغار داخلها كانوا يلتحفون أغطية فضية لامعة تشبه معدات الوقاية من المواد الخطرة أو أوراق الألمنيوم.
وبمعزل عن ذلك السياق، كان بالإمكان اعتبار أن الأمر يتعلق بأزمة أخرى مألوفة ضمن سلسلة لا تنتهي من الأزمات على طول تلك الحدود الأميركية الجنوبية المثيرة للجدل. لكن، وكما يشرح الكاتب والصحفي الأميركي جوناثان بليتزر في كتابه الذي يحمل عنوان «كل مَن رحل موجود هنا.. الولايات المتحدة وأميركا الوسطى وصناعة الأزمة»، مثّلت تلك الأشهر تحولاً في معضلة الهجرة في أميركا، على اعتبار أن المهاجرين المكسيكيين ما عادوا يشكّلون السواد الأعظم من الأشخاص الذين يُعتقلون في عمليات التوقيف الأمنية التي تجري على الحدود. ذلك أن الأطفال الذين ظهروا في تلك الصور قدِموا في المقام الأول من بلدان «المثلث الشمالي»، أي غواتيمالا وهندوراس والسلفادور. 
«عقود من تاريخ أميركا الوسطى كانت تتهاوى على الحدود الأميركية»، يكتب بليتزر، الصحفي بمجلة «نيويوركر»، والذي يتابع هذه المشكلة المعقدة منذ سنوات. وهو يصوِّر بأسلوب واضح ورشيق، متحاشياً النبرةَ العاطفية التي ترتبط بقصص الحدود أحياناً، ومحاججاً بأن الولايات المتحدة وأميركا الوسطى مترابطتان بشكل وثيق، على اعتبار أن الدول الأكثر فقراً الواقعة إلى الجنوب تخضع لهيمنة الدولة الأكثر ثراءً في الشمال، والتي بدورها تتأثر بطرق مختلفة بالمهاجرين الذين يتركون تلك البلدان المضطربة ويعبرون إلى الولايات المتحدة. وهكذا، «يغيّر المهاجرون بلدين في آنٍ واحد: وطنهم الجديد ووطنهم القديم»، يكتب بليتزر.

الموضوعات التي يبحثها الكتاب تبدو ذات أهمية وراهنية في وقت تدخل فيه أميركا حملةً انتخابيةً رئاسيةً يُتوقع أن تشكّل فيها الهجرةُ مرةً أخرى إحدى القضايا المحورية. فالرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يقترب من الظفر بترشيح الحزب الجمهوري، قال إن المهاجرين «يسمّمون دماءَ بلادنا». وفي الأثناء، يكافح خصمه «الديمقراطي» المفترض، أي الرئيس بايدن، لاحتواء موجة أخرى من عمليات العبور غير القانونية، ولإقناع المشرّعين من الحزب الجمهوري بتمرير قوانين هجرة جديدة يدعمها. ومن جانبهم، يسعى «الجمهوريون» إلى عزل وزير الأمن الداخلي في حكومة بايدن، أليخاندرو مايوركاس.

كتاب بليتزر يَبسط فكرتَه الرئيسيةَ عبر سرد قصص مجموعة من الشخصيات على امتداد خمسة عقود. فهناك أنظمة في أميركا الوسطى مدعومة بالمساعدات العسكرية الأميركية، وهناك صنّاع سياسات أميركيون محبَطون وحيارى، وهناك أيضاً منظمات أميركية تدافع عن الهجرة والمهاجرين، علاوة على المهاجرين أنفسهم، ومنهم فنان «غرافيتي» سلفادوري يحاول الإفلات من تأثير عصابات «مارا سالفاتروتشا» سيئة السمعة في لوس أنجلوس. ومن المهاجرين أيضاً امرأة هندوراسية كانت مِن أوائل الآباء الذين تم فصلهم وإبعادهم عن أطفالهم بموجب سياسات وضعتها إدارة ترامب. وفي فقرة من الكتاب، يصف بليتزر مشهداً مؤلماً حين كان موظفو الهجرة الأميركيون «يسحبونها من الزنزانة سحباً وينتزعونها مِن أطفالها، لكن عينيها كانتا مثبتتين على أصابع أطفالها المشدودة والمرتجفة، الذين ظلوا يمسكون بملابسها إلى أن انكسرت قبضاتهم».
بليتزر ينتقد العديد من المؤسسات والبيروقراطيين والرؤساء الأميركيين بسبب دعمهم لحكومات مسؤولة عن مقتل أعداد كبيرة من الناس - أكثرهم من الفقراء والسكان الأصليين - في عمليات قمع ضد مجموعات معارضة وحروب أهلية في المنطقة.. وكل ذلك في سعي خاطئ لدحر الشيوعية أو لتحقيق مكاسب على حساب حقوق الإنسان! وفي هذا السياق، كتب بليتزر عن وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي قامت، في حلقة يكاد يطويها النسيان، بإسقاط الحكومة الجواتيمالية في خمسينيات القرن الماضي بإيعاز من شركة أميركية أرادت الحصول على إعفاءات ضريبية أكبر في الخارج.
لكن بعض المسؤولين يظهرون بمظهر جيد في سرد بليتزر، مثل جو موكلي، عضو الكونجرس «الديمقراطي» عن ولاية ماساتشوستس.
فمواكلي، الذي توفي في عام 2001، كان يدرك تعقيدات وتفاصيل الأزمات الحدودية «المصنوعة» في الولايات المتحدة، إذ قال ذات مرة: «إن قنابلنا وأسلحتنا وألغامنا هي التي جعلت هؤلاء الناس لاجئين». لكنه واجه عراقيل جمة في تحقيقه حول مقتل 6 قساوسة يسوعيين عام 1989 كان النظام السلفادوري المدعوم من الولايات المتحدة يشتبه في أن لهم علاقة بجماعات متمردة خلال الحرب الأهلية التي كانت تمزّق ذلك البلد. وخلص إلى أن وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية كانتا «توفران غطاءً للسلفادوريين».
إن معضلة الهجرة بين الولايات المتحدة وأميركا الوسطى قصة طويلة ومستمرة من دون حل حقيقي يلوح في الأفق. وبينما يتتبع المؤلف الحسابات السياسية للرؤساء الأميركيين الثلاثة الأخيرين على وجه الخصوص، والذين واجه كل واحد منهم أزمته الخاصة، تبدو كلمات رام إيمانويل، الذي شغل منصب المستشار السياسي للرئيس بيل كلينتون في البيت الأبيض وكبير موظفي الرئيس باراك أوباما، أنسب وأبلغ من أي وقت مضى، إذ قال إن الهجرة «موضوع حساس للغاية في السياسة الأميركية».
إلا أنه بعد قراءة كتاب بليتزر، يجد المرءُ نفسَه يميل إلى القول إن المستحيل قد يكون ممكناً، أي أنه قد يكون من الممكن معالجة هذه المشكلة. المؤلف لا يحاول تقديم مجموعة من الحلول والمقترحات السياسية، لكنه يطلق نداءً أكثر فهماً وإدراكاً لتعقيدات هذا الموضوع، معبِّراً عن رفضه «فقدان الذاكرة الانتقائي» في السياسة لصالح فهمٍ أعمق حول الكيفية التي وصلت بها أميركا إلى ما وصلت إليه اليوم. 

محمد وقيف

الكتاب: كل مَن رحل موجود هنا.. الولايات المتحدة وأميركا الوسطى وصناعة الأزمة
المؤلف: جوناثان بليتزر
الناشر: بينغوِن برِس
تاريخ النشر: يناير 2024