ما عدتُ أذكر متى قرأتُ لأول مرة تعبير: «الأمل الذي لا شفاء منه»! لكنني سمعتُه في المرة الثانية أو الثالثة في محاضرةٍ للاهوتي الكاثوليكي ذي الأصل السويسري هانس كينغ، وكان يعبّر به عن شيء من خيبة الأمل في نتائج مشروعه الشهير للسلام العالمي «لا سلام في العالم إلاّ بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالتوافق على أخلاقٍ عالمية» (1991). ففي العام 2006، وقد تحول الغزو الأميركي للعراق إلى حربٍ داخليةٍ طاحنة نالت من الدين ومن العلاقات الوطنية والدولية نيلاً شديد الهول، وقع اللاهوتي البارز في حيرةٍ بشأن العلل الحقيقية للحروب، وهل هي الصراعات بين الأديان أم الصراعات بين الدول. ولكي لا تنتهي تأملاته إلى يأسٍ مطبق ختم محاضرةً له عن السلام العالمي آنذاك بالأمل الذي لا شفاء منه في السلام الدائم الذي أمَّل به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في رسالته عام 1794.
لا أعرف أمةً في العالم لديها هذه الرغبة العارمة في الاستقرار والسلام مثل الأمة العربية بسبب الآلام التي لا تُحتمل والتي نزلت بشعوبها ودولها خلال العقود الأخيرة على وجه الخصوص. ومؤتمر القمة العربية بمملكة البحرين، قبل يومين، هو دليلٌ على هذا الأمل الذي لا يتوارى ولا يَضعف. ولذا خامرني انزعاجٌ شديدٌ لكثرة ما سمعتُ وقرأت من حملاتٍ على مؤتمر القمة بحجة أنه في كلمات الأعضاء وفي البيان الختامي كلامٌ مكرورٌ ومُعادٌ ولا يأتي بجديد! وهذا الانطباع الإعلامي ليس صحيحاً، وهو ليس أكثر من جلدٍ للذات، بل إنه تعبيرٌ عن التخلّي عن المسؤولية وإيهام بأنّ هناك مَن هو بريء وهناك مَن هو مُدان! لقد أثبتت تجارب العرب والعالم في العقود الثلاثة الأخيرة أنّ مقولة هانس كينغ في أنّ سلام الأديان هو سلام العالم غير صحيحة على إطلاقها. وصحيح أنّ النزاعات ذات العنوان الديني صارت جزءاً من مشكلات العالم. لكنّ الاختلال الكبير الذي تظهر نتائجه في الصراعات الدائرة حدث ويحدث في العلاقات الدولية وفي نظام العالم الذي صدّعته المطامح الاستراتيجية التي استُخدم فيها كل شيء، بما في ذلك الحساسيات الدينية والقومية.
هناك منطقتان في العالم هما الأهم في الموازين الاستراتيجية اليوم وعليهما يدور الصراع: المنطقة العربية التي صاروا يطلقون عليها مصطلح الشرق الأوسط، ثم منطقة الشرق الأقصى. وفي العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة ما بقيت دولةٌ كبرى أو وسطى إلا ودخلت في الصراع على الشرق الأوسط وما وراءه وما حوله، بسبب الثروات وبسبب المديات الاستراتيجية والمحيطات. وقد ناضل العرب طويلاً وما يزالون لدفع الأيدي المتكاثرة من الجوار والعالم للتدخل وإثارة الاضطراب.
ولأنّ دول الخليج استطاعت حفظ استقرارها ونهضت بوحداتها الوطنية، فإنها لم تنكمش ولا تركت المسؤوليات العامة. لقد تدخلت بالقدرات المتاحة لحفظ مصر والأردن، وأطلقت منذ العام 2011 وحتى اليوم مبادرات لاستعادة الاستقرار في البلدان الأُخرى المضطربة. وفي النزاع على فلسطين، كانت وما تزال منذ مبادرة العام 2002 في طليعة العاملين من أجل إقامة الدولة الوطنية هناك، وهي تتقدم على الجميع في الشهور الأخيرة في إمداد غزة بالمساعدات الإنسانية، وفي العمل على المستويات كافة لوقف الحرب، ودخول الأفق السياسي. كل المحاولات لوقف انعقاد القمم العربية لم تؤثر في التماسُك من أجل الحفظ ومن أجل صنع السلام العادل، وأولاً وآخراً من أجل استعادة الدول من الميليشيات وداعميها. نعم مؤتمر القمة بالبحرين هو تعبيرٌ عن أملٍ لا شفاء منه في السلام والنضال من أجل المستقبل الآخر.
*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية