لا ينطبقُ القولُ المأثور «رُبَ صُدفةٍ خيرُ من ألف ميعاد» على البدء في عرض فيلم «حرب أهلية» في دور السينما الأميركية، في الوقت الذي يُخشى أن يتصاعد العنفُ السياسي ويخرجُ عن نطاق السيطرة عقب الانتخابات الرئاسية في مطلع شهر نوفمبر المقبل. يصعب تصور أن تكون الشركةُ المُنتجةُ للفيلم «إيه 24» ومخرجه أليكسي غارلاند وفريقُه فكروا في صناعة هذا العمل الفني بمعزل عن الواقع، على الرغم من أنه لا يتطرقُ إليه بشكلٍ مباشر. فقد خلق الصراعُ الداخلي الذي دخل مرحلةً جديدةً مع انتخابات عام 2020 الرئاسية، واحتمال تصاعده عقب الانتخابات المنتظرة في نوفمبر المقبل، واقعاً يصعبُ إغفاله أو تجاهله، وخاصةً في ظل ازدياد أنشطة جماعات اليمين المتشدد واليسار المتطرف واتخاذها طابعاً مليشياوياً في مجتمعٍ يحوزُ معظم مواطنيه أسلحةً ناريةً شخصية.
يُحذرُ الفيلم، عبر الإبداع الفني، من العنف السياسي المتزايد. ويبدو هذا التحذيرُ واضحاً في بدايته على لسان صحفية أميركية متخصصة في تغطية الحروب، إذ تقولُ إنها كلما نجحت في الحصول على صورةٍ تُعبرُ عن أخطار حربٍ تُغطيها كانت تَشعرُ بأنها تُنبِّه مواطنيها: لا تفعلوا مثل ذلك.
ويُصنَّفُ هذا العملُ الفني ضمن أفلام «الديستوبيا». وهو كذلك فعلاً، لكنه يستمدُ أهميتَه من دور الفن عموماً في إثارة النقاش حول قضايا العنف السياسي بمختلف أشكاله. ويؤدي الفيلمُ هذا الدورَ من خلال الحث على التفكير في أسئلةٍ ربما يتوقفُ على إجاباتها مستقبلُ العالَم وليس الولايات المتحدة فقط، وفي مقدمتها بالطبع السؤال المحوري: ماذا لو تصاعد العنفُ السياسي في أميركا خلال المرحلة الراهنة أو بُعيدها؟ وهل من المحتمل أن ينقسم المجتمعُ حقاً إلى فريقين متحاربين؟ ربما ينطوي عنوانُ الفيلم «حرب أهلية» على مبالغة. لكن هذا عملٌ فني يُخلطُ فيه الواقعُ بالخيال. كما أن سؤال الحرب الأهلية مطروحٌ فعلاً في بعص الأوساط الأميركية. والسؤالُ مُختَلفُ حول مدى واقعيته، وتتباينُ إجاباتُ مَن يرونه جديراً بالتفكير فيه من زاوية أن تفاقم الانقسام يُمكنُ أن يَقود إلى معارك داخلية قد لا تأخذُ صورةَ الحرب الأهلية المعروفة في بلدان نامية، لكنها قد تكونُ أخطرَ بسبب تعدد أدوار الولايات المتحدة في العالم خلال وقتنا الراهن.
ولعل أكثر ما يجدرُ بالأميركيين التفكير فيه، ضِمن هذا السياق، هو ما قد يترتبُ على تآكل الرابط الأقوى الذي يجمعُهم على الرغم من اختلافاتهم العرقية والدينية والسياسية الوفيرة، وهو الاحترامُ الكاملُ للدستور والقانون، والمكانةُ الرفيعةُ للقضاء الذي يعودون إليه واثقين في نزاهته حين يحتدمُ خلافٌ ما. هذا الاحترامُ هو ما يبدو أنه يتآكلُ اليوم، ومحاكماتُ ترامب الكثيرةُ تدفعُ أنصارَه للاعتقاد بأن القضاء صار جزءاً من اللعبة السياسية.
وهذا هو جوهرُ الموضوع، بغض النظر عن طبيعة ما قد يحدثُ جرّاء الانقسام المتزايد إذا أدى إلى زَعزعة الاستقرار داخل الدولة الأكثر تأثيراً في العالم.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية