المناسبة معرض أبوظبي الدولي للكتاب. وقد صرنا متمرسين، سواء لجهة ما نريد اقتناءَه من كتب، أم لإغناء الاحتفالات التي نشارك فيها بموضوعات المعرض ونشاطاته التي تقوم بها الجهات الثقافية المختلفة. كيف تظهر المشروعات العلمية، وفي العلوم الإنسانية بالذات؟ في الواقع لا يعرف الواحد منها بوضوح في بداية حياته العلمية بعد الدكتوراه لماذا يثير اهتمامه هذا الموضوع أو ذاك، اقتناعاً منه بأنه يستطيع إنتاج جديدٍ فيه: هل يتأثر بموضوعه في الدكتوراه، أم يكتشف موضوعاً آخر يستحق البحث والتنقيب؟ على كل حال بالنسبة لي، وقد حصلت على الدكتوراه عام 1977، ما عاد هذا الأمر مفاجئاً أو باعثاً على الكثير من التفكير والمراجعة. فخلال أربعين عاماً ونيف عملتُ على خمسة مشروعات تتالى الاهتمام بها تبعاً لتنامي الاطّلاع، فالوعي والاتجاه إلى البحث والإنجاز.

عملت خلال هذه المدة الطويلة على التفكير بالدولة في الإسلام الكلاسيكي، وعلى نقد الاستشراق، وعلى النهوض والإصلاح في العصر الحديث، وعلى التاريخ الثقافي العربي، وعلى مكافحة تيارات التشدد والأصوليات. وهنا أعود إلى معرض أبوظبي للكتاب عام 2024. فقد استعنتُ على القيام بالبحوث العلمية بتحقيق النصوص، وبالترجمات، وبإنشاء المجلات الفكرية. وفي معرض هذا العام كانت الترجمات الجديدة همي. وقد يحسب القارئ أنني لا أعرف اللغات الأجنبية، لكني أعرف الألمانية والإنجليزية.

وأترجم منهما، وقد درّستُ بهما. لكنني عندما بدأت اهتمامي بالاستشراق، رأيتُ أن الجديد الذي نقرؤه لا يستقر في الذهن إلاّ بالإقبال على ترجمته. وإلى جانب ذلك أعتني دائماً بالترجمات التي قام بها الزملاء والمختصون في الحقول التي أهتم بها. وقد وجدتُ في المعرض هذا العام العديدَ من الكتب المترجمة في علاقات الشرق والغرب وفي الحوار الديني وفي فلسفة الدين وفي الصراعات الدولية وما صار يُعرف بعالم ما بعد أميركا.. وقد وجدتُ مجالاً للنقاش فيها مع طلابي، ودفعتُ للزملاء للمراجعة والتقييم ما يمكن نشره في مجلة «قراءات» الصادرة عن جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.

خلال حياتي العلمية نشرتُ 10 مخطوطات عربية قديمة في مجالاتٍ مختلفة، وهذا العام ما وجدْتُ بالمعرض تحقيقات جديدة في الحقول التي تهمني، لكني وجدت مؤلفات في فن التحقيق، وقد صار التحقيق والدراسة فناً معتمداً يتخصص فيه العشرات، وأمامهم بحرٌ زاخرٌ من مخطوطات التراث في صنوفه التي لا تنتهي. خلال أربعين عاماً أشرفتُ على إصدار أربع مجلات فكرية: «الفكر العربي»، «الاجتهاد»، «التسامح»»، و«التفاهم». وبالطبع فإن ميولي البحثية أثّرت في الملفات التي كنا نُصدِرها فيها. لكنها مجلات شاملة، والأحرى أنها أكسبتني معرفةً واهتماماً بمجالاتٍ ما كانت بين اهتماماتي الأصلية. في «الاجتهاد» عملتُ مع الزملاء على ملفاتٍ كبرى في الحضارات وفي الفكر العربي، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأصدرنا أعداداً عن كتاب مرشال هودجسون «مشروع الإسلام.. الوعي والتاريخ في حضارةٍ عالمية».

وعندما ترجمتُ مع الزملاء الكتاب الضخم لمايكل كوك، «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي»، انصرفنا في مجلة «التسامح» لدراسة فكرة المسؤولية باعتبارها روح الإسلام حسبما ذهب إليه المؤلف. أما في مجلة «التفاهم» فقد انهمكنا في بحوث فلسفة الدين، وفي الدين المقارن، وفي الحوار الديني، وفي المقاربات الأخلاقية لمشكلات العالم. وفي مجلة «قراءات» بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، نَعرض كتباً في كل هذه الموضوعات، والشرط فيها أن تكون جديدة ولمؤلفين معروفين. والقراءة تكون عرضاً تعريفياً أو استطلاعاً نقدياً. حتى العدد السادس عرضنا خمسةً وخمسين كتاباً في شتى مجالات العلوم الإنسانية والدراسات الإسلامية والعلاقات الدولية والفلسفة والتاريخ والتربية والتعليم. لقد أفدتُ كثيراً من معرض أبوظبي للكتاب، ولذا أحببت التنويه بما عُرض فيه.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.