أدت الحرب في غزة إلى احتجاجات في العديد من الجامعات الأميركية المرموقة، مثل «هارفارد»، و«يل» و«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، و«كولومبيا» و«كاليفورنيا لوس أنجلوس» و«إيمرسون». والواقع أنه خلال ثلاثين عاماً الماضية كانت هناك احتجاجات للطلبة بسبب جنوب أفريقيا والعنصرية والعنف المسلح، غير أنه لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي وأوائل سبعينياته أن كانت هناك مشاعر غضب عفوي بهذا الحجم من أزمة معينة.
واليوم، تنقسم الاحتجاجات إلى فئتين مختلفتين: طلبة مؤيدون للفلسطينيين يطالبون كلياتهم بسحب استثماراتها ومشاريعهم التعاونية مع الجهات الإسرائيلية، وطلبة يهود يطالبون بالحماية من مظاهر معاداة السامية التي وجدت صدى لها في كل الجامعات تقريباً. في بعض الحالات، استُخدمت قوات الشرطة المحلية لاعتقال الطلبة بسبب خرقهم قوانين الجامعة بخصوص الممارسات المحظورة داخل الحرم الجامعي. وحتى الآن، ما زال تدخل الشرطة يمثّل الاستثناء، لكنه قد يزداد إذا اشتدت المواجهات بين المتظاهرين وإدارات الجامعات وازدادت سوءاً. وهو ما سيحدث على الأرجح في حال تفاقمت الحرب في غزة، مع ما يعنيه ذلك من سقوط حتمي لمزيد من الضحايا في صفوف المدنيين، غير أنه إذا أمكن التوصل إلى وقف طويل لإطلاق النار هناك، فإن من شأن ذلك أن يخفّف حدةَ الاحتجاجات، ومع مرور الوقت قد تتوقف على الأرجح المخيماتُ التي يقيمها الطلبةُ في الحرُم الجامعية، وقد يكفون عن احتلالهم مباني الجامعات.
غير أن مطالبة الجامعات الأميركية بسحب استثماراتها، ووقف علاقاتها الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية ستواجَه بمقاومة قوية من العديد من الخريجين والكونجرس الأميركي والبيت الأبيض نفسه؛ إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الأميركيين يؤيدون حق الطلبة في الاحتجاج، لكنهم يرون في الوقت نفسه أنه يجب معاقبة العنف وخطاب الكراهية. وقد رفعت العديد من المنظمات اليهودية مؤخراً دعاوى قضائية ضد بعض الجامعات لفشلها في توفير بيئة آمنة للطلبة اليهود داخل الحرُم الجامعية.
ومايو هو الشهر الذي تحتفل فيه معظم الجامعات الأميركية بفعاليات «حفلات التخرج» السنوية التي تكرّم المتخرجين الذين سيتركون مقاعد الدراسة، ويغادرون الجامعة لبدء حياة مهنية جديدة. وبهذه المناسبة، يأتي الآلاف من الأصدقاء والأقارب لحضور هذه الاحتفالات التي تدوم في العادة يومين أو ثلاثة أيام. وفي الوقت الذي كتبتُ فيه هذه السطور، أعلنت جامعة جنوب كاليفورنيا إلغاءَ حفل التخرج الذي كان مقرراً في العاشر من مايو، بسبب مخاوف تتعلق بـ«السلامة»، وهو ما يمثّل خيبةَ أمل كبرى للطلبة وآبائهم الذين دفعوا مبالغ طائلة من المال من أجل توفير تعليم جيد لأبنائهم. ولا شك في أنه إذا ألغت مزيداً من الجامعات حفلات التخرج، فإن الغضب ضد المحتجين سيزداد.
عندما حدثت الانتفاضات الطلابية في ذروة حرب فيتنام، أصبحت الاحتجاجات مثيرة للانقسامات الشديدة. ففي نوفمبر 1969، انتقد الرئيس «الجمهوري» الجديد ريتشارد نيكسون المتظاهرين، إذ قال: «وهكذا، أتوجه إليكم الليلة لأطلب دعمكم، أنتم الأغلبية الصامتة العظيمة من المواطنين الأميركيين». كان نيكسون يعلم أن نداءه يحظى بالتأييد الشعبي، ويرمي إلى استمزاج البلاد. واليوم، يدرك كل من جو بايدن ودونالد ترامب أن «الأغلبية الصامتة» سترحّب بإجراءات صارمة للرد على الاضطرابات الحالية، غير أن بايدن يواجه تحدي دعم القانون والنظام، وفي الوقت نفسه، تحدي استمالة الكتلة الكبيرة من العرب الأميركيين الذين يصوّتون في الولايات المتأرجحة، وخاصة ميشيجن، والذين يريدونه أن يمارس مزيداً من الضغط على إسرائيل من أجل وقف الحرب في غزة.
ومن جهة أخرى، قد يتطلب إنفاذ القانون تدخل قوات الشرطة المحلية، لكن الجميع يريد تجنب المأساة التي حدثت في الرابع من مايو عام 1970. ففي ذاك اليوم، أطلق أفراد «الحرس الوطني» النارَ على الطلبة في جامعة «كِنت ستيت يونيفرستي»، ما أسفر عن مقتل 4 طلبة وجرح 9 آخرين. والخطر اليوم يكمن في وجود عدد أكبر بكثير من الأسلحة بين السكان، وفي أن وسائل التواصل الاجتماعي تنقل كل حادث يقع على مدار الساعة. وأي مواجهات مميتة بين المتظاهرين والسلطات يمكن أن تتصاعد بسرعة مع ما ينطوي عليه ذلك من عواقب وخيمة بالنسبة للبلاد، ولا سيما في وقت تشتد فيه التوترات السياسية المرتفعة بسبب الانتخابات المقبلة.
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال إنترست» - واشنطن