التقت الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب في قطاع غزة وإقامة علاقة جديدة مع السعودية في الأسابيع الأخيرة عند اختيار واحد كبير أمام إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو: ما الذي تريده أكثر: رفح أم الرياض؟
هل تريد القيام باجتياح شامل لرفح في محاولة للقضاء على «حماس» - إنْ كان ذلك ممكناً أصلاً - من دون تقديم أي استراتيجية إسرائيلية للخروج من غزة أو أي أفق سياسي لحل الدولتين مع الفلسطينيين غير المنتمين لحركة «حماس»؟ الواقع أنها إذا سلكت هذا المسلك، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى مضاعفة عزلة إسرائيل في العالم والتسبب في خلاف حقيقي مع إدارة بايدن.
أم تريد التطبيع مع السعودية، وقوة عربية لحفظ السلام لغزة، وتحالفاً أمنياً بقيادة الولايات المتحدة ضد إيران؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن ثمنه سيكون مختلفاً: التزام من حكومتك بالعمل في اتجاه قيام دولة فلسطينية مع سلطة فلسطينية خضعت للإصلاح - ولكن مع استفادة إسرائيل من ميزة إدماجها في أوسع تحالف دفاعي أميركي - عربي- إسرائيلي تمتعت به على الإطلاق وفي أكبر جسر مع بقية العالم الإسلامي عُرض عليها على الإطلاق، مع خلق بعض الأمل على الأقل في ألا يكون الصراع مع الفلسطينيين «حرباً أبدية».
من خلال الأحاديث التي أجريتُها هنا في الرياض وفي واشنطن، يمكنني أن أصف وجهة نظر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بخصوص الاجتياح الإسرائيلي لغزة اليوم على النحو التالي: اخرجوا في أسرع وقت ممكن. ذلك أن كل ما تفعله إسرائيل حالياً هو قتل المزيد والمزيد من المدنيين، ودفع السعوديين الذين أيدوا التطبيع مع إسرائيل إلى معارضته، وخلق مزيد من المجندين لتنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وتقوية موقف إيران وحلفائها، والتسبب في عدم استقرار المنطقة وإبعاد الاستثمارات الأجنبية التي هي في أمس الحاجة إليها عنها. أما فكرة القضاء على «حماس» «بشكل نهائي وإلى الأبد»، فهي مجرد أحلام، من وجهة نظر السعودية. وإذا كانت إسرائيل تريد الاستمرار في القيام بعمليات خاصة في غزة لاستهداف القيادة، فلا مشكلة. ولكن لا قوات بشكل دائم على الأرض. فالمطلوب هو التوصل إلى وقف كامل لإطلاق النار وإفراج عن الرهائن في أقرب وقت ممكن، والتركيز بدلا من ذلك على الصفقة الأمنية - التطبيعية بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل والفلسطينيين.
هذا هو الطريق الآخر الذي يمكن أن تسلكه إسرائيل في الوقت الراهن - وهو الطريق الذي لا يدافع عنه أي زعيم كبير من المعارضة الإسرائيلية باعتباره الأولوية القصوى، ولكنه الطريق الذي تؤيّده إدارة بايدن والسعوديون والمصريون والأردنيون والبحرينيون والمغاربة والإماراتيون. صحيح أن نجاحه ليس أكيداً بأي حال من الأحوال، ولكن شأنه في ذلك شأن «النصر الكامل» الذي يعد به نتنياهو.
هذا الطريق الآخر يبدأ بعدول إسرائيل عن أي اجتياح عسكري شامل لرفح، التي تقع على الحدود مع مصر مباشرة وتُعد الطريق الرئيسي الذي تدخل منه الإغاثة الإنسانية إلى غزة بالشاحنات. هذه المنطقة تضم أكثر من 200 ألف نسمة من السكان بصفة دائمة وأكثر من مليون لاجئ نزحوا من شمال غزة. ويقال إنها المكان الذي تتحصن به آخر 4 كتائب سليمة تابعة لـ «حماس»، وربما قائدها يحيى السنوار أيضاً.
إدارة بايدن تقول لنتنياهو علنا إن عليه ألا يقوم باجتياح شامل لرفح من دون خطة موثوقة لإخراج أولئك المدنيين الذين يزيد عددهم على مليون نسمة - وإن إسرائيل لم تقدّم مثل هذه الخطة بعد. ولكن بعيداً عن أضواء وسائل الإعلام، تتحدث الإدارة بصراحة أكبر وتقول لإسرائيل: لا اجتياح كبيراً لرفح، انتهى الكلام.
ذلك أن المسؤولين الأميركيين مقتنعون بأنه إذا قامت إسرائيل بتدمير كل رفح، بعد أن فعلت الشيء نفسه بأجزاء كبيرة من خان يونس ومدينة غزة، ولم يكن لديها شريك فلسطيني موثوق يريحها من العبء الأمني لحكم غزة المحطمة، فإنها سترتكب بذلك الخطأ نفسه الذي ارتكبته الولايات المتحدة في العراق وسينتهي بها الأمر إلى مواجهة تمرد دائم، فضلاً عن أزمة إنسانية دائمة. إلا أنه سيكون هناك فرق واحد أساسي بين الحالتين: فالولايات المتحدة قوة عظمى يمكنها أن تفشل في العراق ثم تتعافى وتنهض. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن من شأن تمرد دائم في غزة أن يصيبها بالشلل، وخاصة في وقت لم يتبق لها فيه أصدقاء.
ولهذا، أخبرني مسؤولون أميركيون بأنه إذا قامت إسرائيل بعملية عسكرية كبيرة في رفح، رغم اعتراضات الإدارة الأميركية، فإن الرئيس جو بايدن سيبحث إمكانية فرض قيود على بعض مبيعات الأسلحة إليها.
هذا ليس فقط لأن إدارة بايدن ترغب في تلافي سقوط مزيد من الضحايا المدنيين في غزة انطلاقاً من مخاوف إنسانية، أو لأن من شأن ذلك أن يثير حفيظة الرأي العام العالمي ضد إسرائيل ويصعّب على فريق بايدن أكثر مهمة الدفاع عن إسرائيل، وإنما لأن الإدارة الأميركية تعتقد أن اجتياحاً إسرائيلياً شاملاً لرفح سيقوّض فرص نجاح عملية جديدة لتبادل الرهائن يقول المسؤولون إن هناك بصيص أمل جديداً بشأنها الآن، وسيدمّر المشاريع الحيوية التي تعمل عليها الإدارة الأميركية حالياً لتعزيز أمن إسرائيل على المدى الطويل.
فريق بايدن يرغب في إتمام الجزء الأميركي- السعودي من الصفقة، حتى يتسنى له التصرف مثل حزب المعارضة الذي لا تملكه إسرائيل في الوقت الراهن ويستطيع أن يقول لنتنياهو: يمكن أن يذكرك التاريخ باعتبارك الزعيم الذي أشرف على أسوأ كارثة عسكرية لإسرائيل يوم 7 أكتوبر، أو الزعيم الذي قاد إسرائيل للخروج من غزة وفتح الطريق للتطبيع بين إسرائيل وأهم دولة إسلامية. الاختيار اختيارك! وهو يريد أن يقدّم لها هذا الاختيار علناً حتى يراه كل إسرائيلي.
وعليه، اسمحوا لي أن أنهي هذا المقال من حيث بدأت: إن مصالح إسرائيل على المدى الطويل توجد في الرياض وليس في رفح. بالطبع، كلاهما غير أكيد، وكلاهما ينطوي على مخاطر. كما أنني أدركُ أنه ليس من السهل على الإسرائيليين تقييم هذين الخيارين في وقت يهاجم فيه كثير من المحتجين عبر العالم إسرائيل هذه الأيام بسبب سلوكها السيئ في غزة ويعفون «حماس» من تبعات ما قامت به. ولكن هذا هو دور الزعماء: أن يشرحوا ويوضحوا أن الطريق إلى الرياض له عائد أكبر بكثير من الطريق إلى رفح، الذي سيكون طريقا ًمسدوداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ختاماً، إنني أقدّر تماماً أن الإسرائيليين هم الذين سيتعين عليهم التعايش مع الخيار الذي سيختارونه في النهاية، وكل ما أريده هو التأكد من أنهم يعرفون أنهم يمتلكون اختياراً.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»