مع العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 تنبه الزعيم جمال عبدالناصر للمرة الأولى إلى تكامل الأمن القومي العربي. فحتى ما بعد ثورة الضباط الأحرار، وقبل تأميم قناة السويس، لم يكن هناك مفهوم للأمن القومي العربي. صحيح أن المفهوم كان موجوداً في أدبيات الجامعة العربية، وفي شعارات حركة «القوميين العرب» والتيار القومي العام في منتصف القرن العشرين، غير أنه لم يكن مفهوماً واقعاً بحكم أن المنطقة كانت خاضعة للاستعمار الأجنبي. وشكلت حرب السويس بالنسبة للمصريين أكبر من مجرد حرب إثبات للنظام «الجمهوري»، فهي كانت القوة الدافعة لاتخاذ مصر قرارات أكثر جرأة في دعم حركات التحرر الوطني في الجزائر وعدن، وهي التي منها تشكل تعريف «الأمن القومي العربي». لتأمين قناة السويس، كان لابد من تأمين عدن التي كانت خاضعة للاستعمار البريطاني، حسم عبدالناصر قراره بدعم الجبهة القومية في جنوب اليمن ولم ينتظر ما نص عليه «الكتاب الأبيض» الذي أقره التاج البريطاني بأن يكتمل الجلاء الإنجليزي من مستعمرات شرق السويس بحلول العام 1968.
وضغطت القيادة المصرية في عدن ليتحقق الجلاء في 30 نوفمبر 1967 وإعلان قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومعها تكون الأمن القومي بامتداداته، فمن ناحية حقق ممراً ممتداً على طول البحر الأحمر، خاضعاً للدول الوطنية العربية، ومن الناحية الأخرى ساهم في منح كافة دول الخليج العربية استقلالها الوطني. صيغة «الأمن القومي العربي»، بمفهومها الناصري، تتطلب في القرن الحادي والعشرين إعادة صياغة، وفقاً للتحولات الجيوسياسية الدولية وحتى الإقليمية، فلم تعد المنطقة خاضعة للاستعمار الأجنبي، فلقد تشكل تحدٍّ مختلف بخضوع عواصم عربية للنفوذ الإيراني. الواقع العربي من بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما تلاه من صعود موجة الإرهاب الإسلاموي، وتحديات هذه الظرفية ومع التغيير في النظام الدولي، يتطلب وضع تصورات موضوعية.
فالعالم العربي ليس هو الذي كان قبل خمسين عاماً، ومن المؤكد أن مركز الثقل العربي انتقل من محور القاهرة ودمشق وبغداد إلى محور القاهرة وأبوظبي والرياض، هذا التغير يتعين معه تحولات في أهمية صياغة الأمن القومي.تحديات متواصلة تتضمن الإرهاب والاقتصاد والذكاء الاصطناعي وعلاقة العالم العربي بالقوى الإقليمية المحاذية تركيا وإيران وإسرائيل. فالواقعية تفرض تعاملاً موضوعياً مع الدول الفاشلة. وعلى العالم العربي أن يقرّ بأن هناك دولاً فاشلة تسيطر عليها مليشيات تسيطر عليها قوى خارجية. قد يكون من المهم وضع مقاربة بأن هذه الدول الفاشلة تماثل تلكم الدول التي كانت تحت الاستعمار الأجنبي، هذه مقاربة فيها كثير من الصراحة، وفيها إقرار شجاع، متى ما استطاع مركز الثقل السياسي العربي الوصول إليه، فقد يكون لديه من التصورات الواضحة المعالم لمعالجة هذا الواقع. فمهما يكنّ، فإن ثمن المعالجة، وإنْ كانت مؤلمة، سيكون أفضل من التعامي عن ترك الشعوب تعيش في دوامة الصراعات اللامنتهية. من الضروري التوصل لرؤية مشتركة للأمن القومي العربي المعاصر.
فالتحديات أخطر من تجاهلها، فالممرات الملاحية باتت خارج سلطة القوى الوطنية العربية، وهو ما يسقط تماماً تكاملية الأمن القومي. وهناك ضرورة أخرى لاستيعاب أن من موجبات الصياغة تناول تحولّ التنافسية بين دول مركز الثقل من التنافس الجيوسياسي إلى الجيواقتصادي، توالي الأزمات خلق تراكمات مهولة، لذا من الضروري جداً التوصل إلى رؤية مشتركة للأمن القومي العربي المعاصر، حيث إن التحديات المستقبلية أصبحت أكثر خطورة وتعقيداً. إن حماية استقلالية الممرات الملاحية والتحديات الاقتصادية والتهديدات الإرهابية تشكل تحديات تتطلب تحركاً جاداً وتعاوناً مشتركاً لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى أهمية تجديد الخطاب الديني وتجفيف منابع تمويل الإرهاب الفكرية والمالية، مع وضع ديناميكيات فاعلة للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، تلك هي القضايا التي تجب مواجهتها بصورة جادة ومتسقة، لضمان أمن واستقرار العالم العربي في ظل التحولات والتحديات الراهنة والمستقبلية.
*كاتب يمني