في عام 1796، كتب الرئيس جورج واشنطن خطاب وداع نشر في معظم الصحف الأميركية. الرئيس واشنطن كان قد رفض الترشح لفترة رئاسية ثالثة كرئيس للولايات المتحدة، وأراد أن يشرح أسباب اعتزاله الحياة العامة، فأشار إلى العديد من القضايا التي كان يرى أنه يجب أن تدرس بعناية إذا ما كان يراد للدولة الجديدة البقاء والازدهار.
تحدّث واشنطن بإسهاب عن التحديات العديدة التي تواجه الولايات المتحدة. وتركزت معظم اهتماماته على شؤون السياسة الداخلية وضرورة عمل الولايات الشمالية والجنوبية معاً. وكان من المؤيدين للتجارة مع الدول الأجنبية، ولكنه قدم لمواطنيه نصيحةً مشهورةً مفادها «البقاء بمنأى عن تحالفات دائمة مع أي طرف من أطراف العالم الخارجي». وكان واشنطن قلقاً بشكل خاص من جر الولايات المتحدة إلى الانحياز إلى بريطانيا أو فرنسا.
وباستثناء حرب قصيرة مع بريطانيا في الفترة من 1812 إلى 1815، استطاعت أميركا خلال معظم القرن التاسع عشر البقاء بمنأى عن الصراعات الأوروبية العديدة. وهناك عاملان رئيسيان يفسّران ذلك، الأول هو أن الولايات المتحدة كانت منفصلة جغرافياً عن أوروبا والقوى الكبرى في آسيا بالمحيطين الأطلسي والهادئ. أما العامل الثاني فهو أن الحاجة إلى تعزيز سيطرة الولايات المتحدة على قارة أميركا الشمالية الشاسعة وتوسيعها كانت تعني تركيزَ مواردها على العلاقات مع كندا والمكسيك والسكان الأميركيين الأصليين.
وكانت هذه هي الفترة التي أفضت فيها المفاوضات والحرب مع المكسيك إلى تحول كاليفورنيا ومعظم أريزونا وكولورادو وأجزاء من نيو مكسيكو ونيفادا وكانساس ووايومنغ إلى جزء من الولايات المتحدة. وفي عام 1867، اشتُريت ألاسكا من روسيا وأصبحت جزءاً من الولايات المتحدة.
اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، لكن الولايات المتحدة تعهدت بالتزام الحياد. غير أنه بحلول عام 1917، بدأت حرب الغواصات الألمانية غير المقيدة في إغراق السفن التجارية الأميركية، فقاد الرئيس وودرو ويلسون الولايات المتحدة إلى الحرب، وبحلول عام 1918، كانت الولايات المتحدة ترسل آلاف الجنود وأكثر المعدات حيويةً إلى أوروبا لدعم بريطانيا وفرنسا. وبحلول نهاية الحرب، صعدت الولايات المتحدة إلى الواجهة كقوة عالمية كبرى مهيمنة.
وعندما وصل ويلسون إلى باريس في عام 1919 من أجل حضور «مفاوضات فرساي للسلام»، استُقبل استقبالَ الأبطال، حيث خرج أكثر من مليون مواطن فرنسي في شوارع باريس من أجل تحيته واستقباله. وكان أعظم إنجاز له هو تأسيس «عصبة الأمم» الجديدة، لكن تردي حالته الصحية وسوء علاقاته مع مجلس الشيوخ الأميركي كانا يعنيان رفْضَ المجلس المصادقةَ على عضوية الولايات المتحدة في العصبة، مما تسبب في شللها منذ البداية.
وخلال ثلاثينيات القرن العشرين، كان لجيرالد ناي، السيناتور «الجمهوري» عن ولاية داكوتا الشمالية، تأثيرٌ مهمٌ على سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وخاصة الجنوح نحو الحياد، والذي بلغ ذروتَه مع تمرير «قوانين الحياد» في أواخر ذلك العقد بهدف منع دخول الولايات المتحدة حرباً كبرى أخرى. وترأس «ناي» جلساتِ الاستماع في لجنة مجلس الشيوخ حول صناعة الذخائر، وهي لجنة كان يرى الكثيرون أنها قوة مؤثرة تؤيد الحربَ ضد ألمانيا، وهو تأييد كان يتطلب توفيرَ مبالغ ضخمة من المال لإنتاج إمدادات لا نهاية لها من الذخيرة للحرب. ثم ازدادت الشكوك في شركات تصنيع الأسلحة أكثر مع صدور كتب مثيرة في أوروبا حول دور «تجار الموت» الذين جنَوا ثرواتٍ طائلةً مِن وراء تأجيج سباقات التسلح عبر أوروبا.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في عام 1939، كان الانعزاليون بقيادة «ناي» والبطل الأميركي تشارلز لينبرج مصممين على إبقاء أميركا خارج الحرب. وفي عام 1940 تشكلت لجنة «أميركا أولاً» للضغط على الرئيس روزفلت من أجل الامتناع عن تزويد بريطانيا بالأسلحة. وبلغت معارضةُ الحرب ذروتَها في عام 1941، لكنها انتهت بشكل مفاجئ في 7 ديسمبر 1941 عندما هاجمت اليابان قاعدة «برل هاربور» الأميركية في المحيط الهادئ.
ومنذ تلك اللحظة وحتى اليوم، ظلت الولايات المتحدة ملتزمةً بنظام تحالف عالمي مصمم على منع الدول السلطوية من استخدام القوة العسكرية لاجتياح دول في أوروبا وآسيا. لكن الحرب في أوكرانيا أيقظت من جديد النزعة الانعزالية في أميركا وباتت الآن تقسّم الحزبَ الجمهوري بحدة. وفي مقالي المقبل، سأناقشُ قوةَ الانعزاليين الجدد ونفوذَهم، وما سيحدث في حال فوزهم بالانتخابات الأميركية القادمة.
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال إنترست» - واشنطن