يعرَّف الميناء بأنه المكان الذي يفصل شركات الشحن عن أموالها. واليوم، بات ميناء بالتيمور مفصولاً عن كل سفن العالم. انهيار «جسر فرانسيس سكوت كي» أدى إلى قطع ممر هام، ولكن ليس حيوياً، لأن هناك طرقاً أخرى للتنقل والعبور من من هذه الضفة إلى تلك، وإن كانت أبطأ أو أطول. ولكنه يقطع ممراً بحرياً مهماً وحيوياً جداً. وإلى أن يُزال الحطام، وسيُزال بالطبع، سيظل الميناء معطلاً، ومغلقاً بإحكام، وتحت حصار. كل ما تطلّبه الأمر هو سفينة واحدة، سفينة عملاقة بالتأكيد، لإسقاط الجسر. السفينة «دالي»، وهي سفينة حاويات يبلغ طولها 984 قدماً (300 متر)، كانت محملة بصناديق فولاذية زاهية الألوان تبدو أشبه بـ «مكعب روبيك» في غاية التعقيد، فقدت الكهرباء واصطدمت بالبرج الجنوبي للجسر في وقت انطلقت فيه نداءات الاستغاثة. عندما تذكر بالتيمور يقفز إلى ذهنك فريدي غراي (الأميركي الأسود الذي مات لدى الشرطة)، وسلسلة «ذا واير» التلفزيونية، وفريق البيسبول الـ «أوريولز» الذي عاد فجأة إلى الواجهة، ورؤساء بلديات «مجرمون»، ورجال شرطة «فاسدون»، وكل لوحات «ماتيس» المعروضة في «متحف بالتيمور للفنون»، وربما أيضاً المغنية بيلي هوليداي، والفنان السينمائي جون ووترز.
الميناء الضخم مترامي الأطراف، الذي كان يُعد حتى يوم الثلاثاء أحد أكثر الموانئ ازدحاما في البلاد، يقع في النقطة حيث يصبّ نهر باتابسكو في خليج تشيسابيك. إنه فعلياً بعيد عن أنظار سكان المدينة. ولكن يا له من مشروع، فمنه يدخل السكر ويخرج الفحم، وتدخل «منتجات الغابات» وتخرج الخردة المعدنية، وتدخل السيارات والشاحنات الخفيفة (أكثر من 800 ألف العام الماضي) وتخرج سيارات وشاحنات خفيفة أخرى. كل السلع التي لديها تاريخ مليء بالألم والاستغلال. إرث العبودية، ومرض الرئة السوداء، وتلوث الهواء، وإبادة الغابات، ولكن هذا هو العالم كما بنيناه. صحيح أنه لم يعد مظلماً كما كان من قبل، لكن لماذا لا ينبغي لبالتيمور أن تحصل على نصيب من هذا النشاط؟ قبل سنوات، كنتُ وزوجتي نعيش في منزل من الطوب يعود لعام 1847 في شارع شرق هامبورغ، في حي بُني لعمال أحواض بناء السفن، وكان اسم الشارع نفسه يحيل إلى التجارة البحرية التي بنت المدينة. في ذاك الوقت - كان هذا في الثمانينيات - كانت هناك ساحة لإصلاح السفن تابعة لشركة «بيتلهيم ستيل» («بيت لحم للفولاذ»). فكنتَ تخرج في الصباح فتجد سفينة شحن كبيرة متجهة نحوك وسطحها في مستوى الشارع تقريباً. كانت الأبواق تنفخ مع تغير نوبات العمل.
وكانت الرافعات تعمل، والألواح الفولاذية تصل. ثم تخرج ذات صباح فتجد السفينة التي كانت راسية هناك لأسابيع قد اختفت، بعد أن أبحرت نحو وجهة بعيدة من العالم. في المكان الذي كان يبدع فيه عمال بناء السفن واللّحامون تُحَفَهم، ينتصب اليوم مبنى شاهق فاخر كبير، ومراكب الترفيه خلفه تجوب الخليج. هكذا هي الأمور. تحتاج سفن اليوم إلى مساحة كبيرة حولها وتحتها، وتحتاج إلى أرصفة مترامية الأطراف، مجهزة ومواتية لقرن الأتمتة هذا. ولهذا السبب، غادر الميناءُ قلبَ مدينة بالتيمور وبات يلعب الآن دوراً صغيراً في مخيلة سكانها. فنسينا أن السفن تصل يومياً، من الصين والبرازيل وسنغافورة. طواقمها ذات الأجور الضعيفة – كلمة «بحارة» لا تبدو الكلمة المناسبة لوصفهم - تعرف بالتيمور على أنها امتداد واسع من الأسفلت يسمى «محطة دندالك البحرية»، في حين كان بحارة العصور الماضية يرتادون المقاهي الخشنة في منطقة «فيلس بوينت» التي باتت اليوم قديمة وغريبة. السفينة «دالي» مسجلة في سنغافورة، ما يعني أنها تخضع لمعايير أعلى من تلك السفن الحزينة التي ترفع ما يسمى «أعلام الملاءمة». لكن ذلك لم يحل دون تعطل الكهرباء في السفينة خلال الدقائق الأولى بعد مغادرتها. عندما افتُتح الجسر في عام 1977، لم يكن هناك أي وجود لسفن عملاقة مثل «دالي». أما الآن فهي موجودة، ويبدو أن 6 من عمال الطريق الذين كانوا على الجسر قد فقدوا حياتهم في الحادث. إنهم ضحايا نشاط نما بشكل عملاق بكل الطرق، من سفنها إلى أرصفتها إلى انتشارها الاقتصادي عبر العالم. أما بالنسبة للجسر نفسه، فقد قيل لنا إنه كان سليماً من الناحية الهيكلية. غير أن تفككه يعكس خوفاً متجذراً بعمق وشائعاً جداً.
إنه يتعلق بالتكنولوجيا التي تبدو غير منطقية. إذ كيف يمكن لهذه الطائرة أن تحلق عالياً فوق الأرض؟ وما الذي يبقي هذا القطار على تلك المسارات الضيقة؟ وإذا كنت أقود السيارة على جسر مرتفع فوق مياه عميقة، ما الذي يبقي هذا الجسر قائماً؟ الفشل هو ذاك الشيء المسكوت عنه في الجزء الخلفي من عقلك، إلى أن يحدث بشكل مفاجئ وفظيع. بعد أن غادرنا شارع هامبورغ، عشنا بجوار قبطان سفن ميتة. فحينما كانت تتوقف سفينة ما عن العمل من أجل الخضوع لإصلاحات جذرية، كانت ميتة، لكنها كانت لا تزال بحاجة إلى قبطان. فكانت تلك هي وظيفته، الانتقال من جثة إلى أخرى. اليوم، الميناء بأكمله بات ميتاً، أو على الأقل في حالة غيبوبة. والجزء الأكبر من بالتيمور، التي تُعد أكبر مولِّد لملايين الدولارات التي بقيت داخل المدينة وأسهمت في تطورها ونموها الاقتصادي على مر القرون، متوقف عن العمل.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكشن» *كاتب وصحافي أميركي