يُتوقَّع أن تشهد الأسواق الناشئة تعافياً اقتصاديّاً العام الجاري (2024)، عقب الركود الذي مرَّت به في العام الماضي. وتشير التوقعات إلى أن اقتصادات عربية عدَّة ستحقق نموّاً يُقدَّر بنحو 3.3 في المئة هذا العام، مقارنةً بـ2.2 في المئة عام 2023. ويأتي هذا النمو في ظل استمرار التحديات الهيكلية المُرتبطة بالاعتماد المفرط على قطاعات مُحددة، وارتفاع مستوى الدين العام، وضعف كفاءة الهيئات العامة والخاصة وشفافيتها، والاختلالات في توازن سوق العمل، والاضطرابات السياسية، وعدم كفاية البنية التحتية، والفوارق الاجتماعية؛ إضافةً إلى الضعف الاقتصادي الخارجي المرتبط بظروف السوق العالمية والسياسات الخارجية. وتمثل هذه العوامل مُجتمعةً عقبات أمام تحقيق نمو اقتصادي مستدام، وتنمية شاملة في الأسواق العربية الناشئة على الرغم من سرعة نموها الاقتصادي، وتطور بنيتها التحتية وأسواقها المالية.
ويُرجَّح أن تشهد مُعدلات التضخم انخفاضاً إلى نحو 3.6 في المئة هذا العام، مقارنة بـ9.3 في المئة العام الماضي؛ ويعود هذا التراجع إلى عوامل عدَّة، منها انخفاض الضغوط المؤثرة في قيمة العملات الوطنية مُقابل العملات الأجنبية، إضافةً إلى تراجع التقلبات في أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة. وتشير تقارير إلى أنه يُنتظَر أن تركِّز السياسات العامة في الدول العربية على تعديل السياسات المالية والنقدية لمواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة، وتعيد النظر في سياسات الدعم، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، وتطوير أُطر نقدية داعمة للاستقرار الاقتصادي والمالي.
وفي المُجمل سيشهد الأداء الاقتصادي للدول العربية تبايناً ملحوظاً؛ متأثراً بالأحداث الدولية الرئيسية، مثل استمرار الحرب في أوكرانيا. ويُرجَّح أن تحقق دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية نموّاً اقتصاديّاً جيداً، مستفيدةً من انتعاش أسواق النفط. وبالمثل تتطلع مصر إلى تحقيق نمو بنسبة 4.3 في المئة، مدفوعة بالطلب المتزايد للغاز، وكذلك يرجَّح أن تشهد الدول المتأثرة بالصراعات، مثل العراق والدول العربية الأقل نموّاً، تحسناً ملحوظاً في أدائها الاقتصادي.
وبالرغم من أن التوقعات العامة تظل مُتفائلة فإن التحديات الهيكلية ستبقى عائقاً؛ فلا تزال ديون القطاع العام تُمثّل مصدر قلق في عدد من الدول العربية؛ كما أن توقعات النمو في المدى المتوسط ضعيفة نسبيّاً. ويَفرض تنوع الظروف الاقتصادية في جميع أنحاء الوطن العربي اتباع سياسات محدَّدة بحسب الخصائص الاجتماعية والاقتصادية الفريدة لكل منطقة؛ ما يعني أن التدابير الوطنية يجب أن تكون مستجيبة للوضع الاقتصادي العام، والعوامل المحلية التي تؤثر في الاقتصاد الكلي بكل دولة عربية.
وفيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لا تزال الدول العربية تواجه تحديات كبيرة في قطاع سوق العمل، يتمثل أحدها في ارتفاع معدلات البطالة الملحوظة، التي تؤثر سلباً في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بالمنطقة. ووفقاً لإحصائيات دولية تشير البيانات إلى أن نسبة البطالة في الدول العربية لا تزال مرتفعة بمتوسط من 8 إلى 10 في المئة. ولا شكَّ في أن مثل هذه التحديات المُركَّبة -التي تتزامن مع محدودية قدرة الاقتصادات العربية على توفير فرص عمل كافية للشباب والباحثين عن عمل- قد تؤدي في أبسط أشكالها إلى تراكم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتعميقها، وتغلق منافذ الخروج من هذه الأزمات.
وما نراهُ أن عام 2024 سيمثل رحلة أخرى مملوءة بالتحديات بالنسبة إلى الاقتصادات العربية، على الرغم من الآفاق التي تبدو واعدة للنمو. ويتعين على السياسات الوطنية أن تعمل برؤية استراتيجية لإيجاد توازن بين تلبية الحاجات الاقتصادية الفورية مثل مواجهة ضغوط التضخم، وإرساء الأسس لتنمية مستدامة طويلة الأجل. ولا بدَّ للسياسات في الدول العربية أن تعالج قضية الفوارق الاجتماعية عن طريق تحسين وضع سوق العمل، وتنفيذ إجراءات فعَّالة لتعزيز الاستثمار في مختلف القطاعات الاقتصادية، ودعم وتشجيع إنشاء الشركات الصغيرة والمشروعات الناشئة ونموها، وتوفير التدريب المهني للشباب، وصقل مهاراتهم، وضمان مواءمتها الحاجات الفعلية والعملية بواقعيَّة.
ونؤكد أهمية تعزيز التعاون الإقليمي والتكامل التجاري الذي يؤدي إلى فتح أسواق جديدة، وتعزيز النمو الاقتصادي؛ ويمكن للدول العربية أن تعمل على خفض الحواجز التجارية، ومواءمة الأنظمة، وإنشاء سوق عربية أكثر تكاملًا؛ فهذه المُوجهات من شأنها أن تدعم اتجاه الاقتصادات العربية إلى الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي، وتبني دعائم المرونة والقدرة على التكيف، وهي مَحاور عمل كفيلة بتجاوز كثير من التحديات المتوقعة، وتسخير الفرص التي تنشأ من المشهد العالمي المُتغير.
*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية