تشرشل وروزفيلت.. كيف واجهَا أوقات الأزمات؟!
سافرتُ عبر البلاد كثيراً خلال الأشهر الخمسة الماضية. وعندما كنتُ أسأل الناس عن السياسة، كان الكلام الذي أسمعه في أغلب الأحيان تعبيراً عن الإعياء.
فالناس تعبوا من الأزمات الوطنية التي لا تنتهي، ومن توجسهم من حملة 2024 الرئاسية، ومن متاعب كل ذلك. والكثير من الأشخاص الذين أتحدثُ معهم يَبدون سلبيين ومحبطين ويحاولون، عبثاً في الغالب، أن يتجاهلوا الضجيج السياسي. ويبدو كما لو أن الناس قد أعياهم العقد الماضي لدرجة أنهم فقدوا الثقة بالنفس ليتمنوا أكثر.
وفي هذه الظروف، ألجأُ إلى زعيمين كانا يعرفان بعض الشيء عن إظهار الأمل في أوقات التعب: وينستون تشرشل وفرانكلين روزفلت اللذين كانا يمثّلان نسختين مختلفتين جداً من الثقة الوطنية بالنفس. تميز تشرشل بتعلقه الرومانسي بماضي بريطانيا. ففي وقت كان فيه من الشائع احتقار الفيكتوريين وازدراء العظماء القدامى مثل دوق مارلبورو الأول، كان تشرشل معجباً ومؤمناً بالتاريخ البريطاني بحماس تلميذ مدرسة.
وبنبرات قوية تذكّرنا بكتابات المؤرخ إدوارد جيبون والكاتب صامويل جونسون، رسم تشرشل صورةً بطوليةً للشعب البريطاني، وكان ينظر إلى مشاكل بريطانيا الراهنة على ضوء ماضيها المجيد. وفي عام 1940، وفّرت رؤيته الرومانسية الوضوحَ الأخلاقي وسط اضطرابات العصر. وتحت قيادته، أصبح الشعب البريطاني ينظر إلى نفسه كمدافع شجاع وصامد يذود عن حوزة وطنه - الجزيرة، معتبراً نفسه الجيل الأحدث ضمن سلسلة من الأجيال العظيمة من المحاربين المستضعفين والصامدين. وعمل استدعاؤه لماضيهم المشترك على توحيد أمة تقسّمها الطبقية. ثقته لم تكن من النوع النابع من الابتهاج والتفاؤل. وبدلاً من ذلك، كان يدعو إلى المرونة والثبات، مشدداً على ضرورة التضحية والعمل من خلال قولته الشهيرة عن «الدم والكدح والدموع والعرق».
وعلى غرار مَن كان تفكيرهم متجهاً نحو الماضي، تميزت عقليته بإدراك بالمأساة، إذ كان يدرك أن التاريخ عبارة عن سلسلة متتالية من الأعمال الفاسدة والصراعات والحروب، وأنه ليس هناك جيل بمنأى عن صدماته. لكن مزاجه التاريخي كان يمنحه إحساساً قوياً لا يتزعزع بما كان عليه البريطانيون وما يجب أن يفعله البريطانيون.
أما النموذج الثاني المختلف جداً للثقة، فهو ذاك الذي أظهره صديق تشرشل الكبير فرانكلن روزفلت. وفي هذا الصدد، كتب المفكر آيزاي برلين أن الرئيس روزفلت كان يتميز «بإقباله المذهل على الحياة وبتحرره الكامل من الخوف من المستقبل. وكرجل كان يحتضن المستقبل بحماس، ويحمل معه شعوراً بأنه مهما تكن التحديات التي تنشأ فإنه سيجد طريقة للاستفادة منها».
كان روزفلت يتطلع إلى المستقبل بتفاؤل كبير، وبافتراض الوفرة، وبإيمان قوي بالتقدم، لدرجة أنه كان يعتبر الصعوبات الحالية مطبات على الطريق نحو المرتفعات القادمة المضاءة بنور الشمس. وإذا كانت موهبة تشرشل السياسية هي الثبات والصمود، فإن موهبة روزفلت كانت هي البراعة الذكية، فقد كان يستمتع بالارتجال، ويختبر أشياء متعددة في وقت واحد، حتى وإن كانت لا تتناسب مع بعضها البعض. وكانت ثقته المطمئنة في قوته وقوة أمته تستند إلى وعي حساس بشكل استثنائي، واع وغير واع، بمحيطه الخاص، وبتوقعه الغريزي للاتجاه الذي سيميل إليه الرأي العام، وبالكيفية التي ستتطور بها الأحداث. وكأنه كان يمتلك قرون استشعار تستطيع أن تشعر بأدق الاهتزازات عبر العالم السياسي.
وقد كتب برلين عنه قائلاً: «هذا الشعور بأنه في وطنه، ليس في الحاضر فقط وإنما في المستقبل، وبأنه يعرف إلى أين هو ذاهب، وبأي وسيلة ولماذا، جعله مفعماً بالنشاط والمرح، قبل أن تعتل صحته في الأخير، وجعله مصدر بهجة بصحبة أكثر الأفراد تنوعاً واختلافاً». وكانت رؤية روزفلت الواثقة من النفس ترى أنه حتى خلال فترات الكساد والحرب، فإن أمته ما زالت مضاءة بوعد بأيام أكثر إشراقاً في المستقبل.
ولم يفقد هذا الإيمان أبداً. وقد تشك في ذلك في هذه السنوات الكئيبة، لكنني أعتقدُ أنه حتى أميركا اليوم تستطيع أن تنتج قائداً بمثل حيوية وتفاؤل روزفلت. ذلك أننا نمتلك أقوى اقتصاد كبير على وجه الأرض. ولدينا أكثر المراكز التكنولوجية ابتكاراً، وأعظم مراكز التعلم، والموارد العقلية والروحية التي جلبها معهم ملايين المهاجرين المجتهدين. فاليوم لدينا مواهب في أميركا أكثر من أي وقت مضى، ونحن بحاجة إلى شخص يستطيع تسمية نقاط القوة هذه ويربطها بمستقبل أطفالنا.
إننا نطفو فوق فقاعة من التشاؤم. والحال أن الحقائق الأساسية لا تبرر المزاج التشاؤمي الذي يغذّيه دونالد ترامب ويتغذّى منه، بل إننا بحاجة إلى زعيم يستطيع التصدي لوطنية ترامب المليئة بالمظالم والشكاوى بوطنية أوسع وأكثر سخاء، مستفيداً من الإرث المجيد الذي تركه أسلافنا ومستوحاة من إيمان فرانكلين روزفلت المفعم بالتفاؤل بما هو آتٍ.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
*كاتب أميركي