أمام جو بايدن قرار مهم جداً في الشرق الأوسط، قرار يتجاوز المهام الملحة بشكل متزايد والمتمثلة في تأمين صفقة رهائن بين «حماس» وإسرائيل، ووقف إطلاق النار في غزة، وتخفيف الأزمة الإنسانية التي ألمّت بسكانها المدنيين. ما على المحك هو تحديد ما إن كان يمكن وقف انزلاق غزة نحو الفوضى والجوع، وما إنْ كان يمكن تمييز طريق نحو استقرار الشرق الأوسط والسلام في النهاية.
ما هو هذا القرار الذي يواجه الرئيس الأميركي؟
ما إن كان ينبغي كسر قاعدة أساسية وجّهت عقوداً من الدبلوماسية الأميركية الساعية إلى حل الصراع بين إسرائيل وجيرانها العرب.
قاعدة تقول إنه لا يمكننا أن نرغب في السلام أكثر منهم. بعبارة أخرى، من دون استعداد الأطراف المعنية للانخراط وتقديم تنازلات فإن أي قدر من الجهود الدبلوماسية الأميركية الحثيثة لن يحدث أي فرق. أما الخطر الرئيسي في تمزيق القواعد القديمة فهو أن أي جهود دبلوماسية أميركية كاملة في المناخ السياسي الإسرائيلي الفلسطيني الحالي قد تبوء بفشل ذريع في النهاية.
غير أن بايدن مطالَب بأن يوازن بين هذه المخاطرة ومخاطر أخرى، ذلك أنه إذا لم تقد واشنطن جهوداً جديدة ومستمرة من أجل سلام عربي- إسرائيلي، فإن الوضع في غزة قد يزداد سوءاً. كما أن استقرار حكومات عربية أكثر اعتدالاً ومتحالفة مع الولايات المتحدة قد يتزعزع، وإيران والميليشيات الموالية لها عبر المنطقة قد تزداد قوة وجسارة. ونتيجة لذلك، يمكن أن ينتشر العنف بشكل أوسع في المنطقة.
ولكل هذه الأسباب كان بايدن يلمح إلى تدخل دبلوماسي.
تدخلٌ يستند إلى مقايضة بين أشياء يرغب فيها كل طرف بوضوح، بحيث تحصل إسرائيل على اعتراف وتطبيع من المملكة العربية السعودية، التي تعد البلد الأكثر نفوذاً في العالم العربي والإسلامي. وبالمقابل، تلتزم إسرائيل صراحة باتفاق سلام قائم على حل الدولتين واستعدادها للعيش إلى جانب دولة فلسطينية.
والواقع أن الخطر الأول، فشل دبلوماسي ذريع، يظل خطراً حقيقياً جداً، ذلك أن آخر جهود حقيقية للتوصل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين حدثت قبل عقد من الزمن. والأحداث التي وقعت خلال الأشهر الخمسة الماضية، اعتداء «حماس» وخطفها وقتلها لأكثر من ألف مدني إسرائيلي في السابع من أكتوبر، والدمار والمعاناة اللذين أحدثهما الجيش الإسرائيلي في غزة، جعلت كلا الجانبين غير راغبين في التفكير في حل دبلوماسي، ناهيك عن الانخراط فيه.
ومن جهة أخرى، يبدو إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمراً في غاية الصعوبة حالياً؛ ذلك أن الدعم الشعبي للعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة ما زال قوياً، والجمهور لا يبدي رغبة كبيرة في خطوات السلام. وفي الأثناء، يبدو تركيز نتنياهو الرئيسي منصباً على الحفاظ على أغلبيته في البرلمان الإسرائيلي «الكنيست».
هذا الأمر يتوقف على شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، الذين يعارضون أي اتفاق سلام من أي نوع مع الفلسطينيين، ناهيك عن إقامة دولة فلسطينية. إلا أنه حتى من دون تلك العقبة، فإن تجارب صانعي السلام الأميركيين السابقين في المنطقة تشير إلى أن المفاوضات يجب أن تقف وراءها الأطرافُ المعنية مباشرة بالصراع.
فالنجاحان الرئيسيان اللذان حققتهما أميركا في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة هما قمة كمب ديفيد التي استضافها الرئيس جيمي كارتر عام 1978 وعبدت الطريق لسلام تاريخي بين إسرائيل ومصر، ودور الرئيس بيل كلينتون في اتفاقات أوسلو التاريخية بين إسرائيل والفلسطينيين في 1993.
غير أن الزخم الحاسم كان يأتي من الأطراف نفسها. ففي 1978 كان مصدر الزخم هو القرار الجريء للرئيس المصري أنور السادات بالسفر إلى إسرائيل وإلقاء خطاب في الكنيست. وخلال اتفاقات أوسلو، كان مصدره هو جولات متتالية من المحادثات السرية بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين في النرويج.
والحال أن بايدن لا يتمتع بهذا الترف.
ففي جهود صنع السلام هذه، سيتعين على الولايات المتحدة القيام بكل العمل الشاق تقريباً. ولن يكون هناك أي احتمال للنجاح إلا إذا كان بايدن مستعداً ليس فقط لإبراز مزايا اتفاق، ولكن أيضاً للإلقاء بكامل ثقل منصبه وقوة أميركا ونفوذها خلف محاولة تحقيقه.
فلماذا إذن قد يجازف بهذه المغامرة، وخاصة في سنة انتخابية؟
ربما لأن البديل قد يكون أخطر، والمقصود بذلك التداعيات الوخيمة المحتملة على غزة والمنطقة ككل جراء عدم التحرك.
كما أنه من خلال ذلك سيقر الرئيس الأميركي بتغير عميق في السياسة العربية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة. ذلك أن الدول العربية، ولا سيما دول الخليج باتت أكثر استعداداً من أي وقت مضى لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وهي لا ترى في ذلك منافع اقتصادية متبادلة فحسب، ولكن أيضاً مصلحة مشتركة في كبح التهديدات الإقليمية.
وبينما تؤدي المحنة الإنسانية المتفاقمة في غزة إلى تشديد الآراء العربية على مستوى القواعد الشعبية تجاه إسرائيل، ينظر عدد من الحكام في المنطقة إلى رؤية بايدن على أنها الطريق الأفضل، وربما الوحيد، لتخفيف مشاعر السخط والاستياء الشعبي الذي قد يهدد قيادتهم.
ثم إن واشنطن تعلم أن بإمكانها الاعتماد على دعم الكثير من دول العالم لمثل هذه المبادرة. فقد أوضح حلفاؤها في أوروبا أنهم سينضمون إلى هذه المبادرة. وفي حال وصول الخطوط العريضة لاتفاق إلى مجلس الأمن الدولي، فإنه من الصعب تصور كيف قد يختار أي من خصمي أميركا الرئيسيين، الصين وروسيا، ممارسة حق النقض.
والواقع أن احتمال التوصل إلى نهاية دبلوماسية من هذا القبيل، وسط استمرار الحرب في غزة، ما زال بعيد المنال. غير أنه عند التفكير في ما إنْ كان ينبغي التخلي عن هذه القاعدة الأساسية لدبلوماسية الشرق الأوسط في الماضي، قد يجد بايدن ما يشجعه على ذلك في بند فرعي من القرن الحادي والعشرين.
أجل، إن واشنطن ترغب في السلام بالفعل أكثر من الإسرائيليين أو الفلسطينيين في الوقت الراهن. ولكن أطرافاً مهمة أخرى، في مقدمتها السعوديون، ترغب فيه بالقدر نفسه.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»