العمارة الخضراء..وطفرة البناء بالخشب
في قائمة مسببات تغير المناخ، تتفوق الهندسة المعمارية على الكثيرين. ووفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة تمثل صناعات البناء والتشييد نحو 37% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في جميع أنحاء العالم، وثلاثة من مواد البناء الأكثر استخداماً - الخرسانة والصلب والألمنيوم - تولد ما يقرب من ربع إجمالي إنتاج غازات الكربون على الصعيد العالمي. ولكن هناك تقدماً، إذ يتم التوسع في استخدام المواد العضوية المتجددة مثل الخشب والخيزران.
ويتم دمج النباتات والأشجار الممتصة للكربون على نطاق أوسع في التصميم المعماري. وحتى الخرسانة بدأت تتخلص من تأثيرها البيئي الضار مع تطوير أصناف منخفضة الكربون.
يتبنى المهندسون المعماريون الذين يهتمون بالاستدامة هذه المواد في المباني التي لا تعتبر أكثر حساسية للبيئة فحسب، بل تبدو أيضاً مختلفة عن الصناديق الخرسانية والفولاذية الحديثة. وأحد أقوى رموز ثورة المباني الخضراء - في الخيال العام على الأقل - هو المبنى الشاهق المغطى بالنباتات. يمكن العثور على تصاميم المباني المكسوة بالنباتات في ملفات المهندسين المعماريين العالميين مثل «جان نوفيل»، و«نورمان فوستر»، و«توماس هيذرويك»، و«كينجو كوما»، على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك، لم يقم أحد بتشجيع هذا النوع من البناء أكثر من المهندس المعماري «ستيفانو بويري»، وهو من ميلانو، الذي أطلق على إبداعاته اسم «الغابات العمودية». تم افتتاح الغابة العمودية الأصلية - وهي عبارة عن زوج من الأبراج السكنية بواجهات تضم نحو 800 شجرة و5000 شجيرة و15000 نبتة - في ميلانو في عام 2014. ومنذ ذلك الحين أكمل بويري نحو عشرة نماذج أخرى، كان آخرها في هوانجانج بالصين ومدينة أيندهوفن الهولندية.
يقول بويري: «ما فعلناه هو استخدام النباتات، ليس كزينة، ولكن كنوع من الجلد البيولوجي». توفر المساحات الخضراء والظل والبرودة، وتنظم الرطوبة وتمتص ثاني أكسيد الكربون والتلوث. كما أنها بمثابة موطن للطيور والحشرات وتخلق اتصالاً مباشراً وفورياً بين السكان والطبيعة.
ويضيف «بويري»، الذي لديه مشاريع مستقبلية - بعضها قرى بأكملها - في مراحل مختلفة من التطوير في مواقع بما في ذلك القاهرة، ودبي، والمنتجع المكسيكي كانون، إن المباني «تتطور وتتغير دائماً مع الفصول». وقد رفض بعض النقاد مفهوم الغابة العمودية باعتبارها تمويهاً أخضر (تظاهر بالمحافظة على البيئة) أو زينة صديقة للبيئة، بحجة أن الفوائد البيئية يتم إبطالها بسبب الخرسانة والفولاذ كثيف الكربون المطلوب للحفاظ على الأشجار والنباتات.
وقال بويري إن الدراسات التي أجرتها شركة «أروب» Arup الهندسية وجدت زيادة بنسبة 1% فقط في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة ببناء مباني الغابة العمودية. وأضاف أن شركته تستخدم الآن عادةً الألواح الخرسانية الجاهزة، وأنها تتطلع إلى البناء بالخشب، حيثما كان ذلك مناسباً، لتقليل انبعاثات الكربون. ويعترف بويري بالأثر البيئي المحدود للمباني الفردية، لكنه أكد على أهمية ربط «المناطق الساخنة للتنوع البيولوجي بشبكة من الأنظمة الخضراء الأخرى». ويتخيل أنه في المستقبل قد تكون هناك «بالتأكيد» مدن من الغابات العمودية. إحدى المدن الكبرى التي تتخذ خطوات في هذا الاتجاه هي سنغافورة.
إذ أنتجت السياسات التي تهدف إلى جلب الطبيعة إلى المركز الحضري في سنغافورة مشهداً للمدينة تتخلله المباني التي تضم مساحات خضراء واسعة، بما في ذلك العديد من المباني التي أنشأتها الشركة المحلية «ووها» WOHA. من بين أشهر تصميمات «ووها» فندق «بان باسيفيك أوركارد» Pan Pacific Orchard الذي تم الانتهاء منه مؤخراً، مع شرفات حدائقه الواسعة التي تفيض بالمزارع، وفندق «أوازيا» Oasia Hotel Downtown، وهو برج مكون من 30 طابقاً محاطاً بشبكة حمراء متشابكة مع ما يقرب من عشرين نوعاً من الكرمات. وقال «وونج مون سوم»، المؤسس المشارك لشركة «ووها» WOHA: «إن واجهة المعيشة القابلة للاختراق هي جزء من الاستراتيجيات السلبية التي قمنا بتنفيذها لتبريد المبنى، وخفض استهلاك الطاقة وإنشاء مساحة حيوية مريحة». وقال إن الدراسات أظهرت أن الجزء الخارجي أكثر برودة بما يصل إلى 68 درجة فهرنهايت من الهياكل ذات الجدران الزجاجية القريبة.
ومن الممكن أن يساعد ضخ المساحات الخضراء على نطاق واسع في إصلاح ما يسمى بالجزر الحرارية الحضرية التي نشأت عن مساحات من الأسفلت والخرسانة والزجاج والفولاذ. قبل عامين، كشف «كارلو راتي»، المهندس المعماري الإيطالي ومدير مختبر «سينسيبل سيتي لاب» Senseable City Lab في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي تم اختياره للإشراف على بينالي البندقية للهندسة المعمارية في عام 2025، النقاب عن مقترح لإنشاء ما وصفه بأول مزرعة في العالم تمتد على ناطحة سحاب بمقاطعة تشينزين، الصينية. سيتم تغليف المبنى المكون من 51 طابقاً، والذي يطلق عليه اسم برج «جيان مو»، بمزرعة عمودية للزراعة المائية.
وقدر «راتي» أن خطته يمكن أن تنتج ما يكفي من الإنتاج سنوياً لإطعام 40 ألف شخص. هناك أداة أخرى لتحقيق مبانٍ خالية من الكربون وهي واحدة من أقدم مواد البناء وأكثرها شيوعاً: الخشب. نظراً لقيمته في عزل ثاني أكسيد الكربون وإبعاده عن الغلاف الجوي لعقود، إن لم يكن لقرون، يتم الآن تصميم الخشب على نطاق واسع لتحويله إلى مكونات مما يسمى بالأخشاب الكتلية، المصنوعة من طبقات مضغوطة مقاومة للحريق. يتجه المهندسون المعماريون أيضاً إلى مواد طبيعية أخرى تعمل على عزل الكربون، مثل الكتان والأعشاب البحرية.
استخدمت شركة «هينينج لارسن»، وهي شركة دولية مقرها كوبنهاجن، القصب مؤخراً لإنشاء أول واجهة من القش على الإطلاق لمدرسة ابتدائية جديدة في جنوب الدنمارك. يتم تحقيق تأثير مثير بنفس القدر، في سياق مختلف تماماً، في المحطة الجديدة لمطار كيمبيجودا الدولي، في بنغالوربالهند، والتي صممتها شركة سكيدمور، أوينجز آند ميريل، أو SOM، ومقرها في شيكاغو. قال بيتر ليفكوفيتس، مدير الشركة، إن المحطة، التي تم تصميمها على أنها «نموذج للتنمية المستدامة ولكن أيضاً كتجربة جديدة تتعلق بالاتصال بالطبيعة». تتميز باستخدامها للخيزران المصمم هندسياً، والذي يكسو الأعمدة ويتم وضعه في طبقات في مساحات شبكية عبر السقف. يشتمل التصميم أيضًا على نباتات معلقة وجدران مورقة من المساحات الخضراء والميزات المائية.
ستيفن واليس*
صحفي لدى «نيويورك تايمز». ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»