قد تقتضي الهجرةُ السردَ، كما قال الروائي الأميركي البوسني ألكسندر هيمون، غير أنه مع مرور الوقت، يصبح هناك تشابه محزن بين القصص الكثيرة لأشخاص يستبد بهم اليأس متكدسين على قوارب يتسرب إليها الماء، وآخرين يركبون غمار رحلات شاقة ومحفوفة بالخطر مشياً على الأقدام عبر الأدغال، ووافدين جدد يتنقلون عبر دوامة إجراءات بيروقراطية تبعث على الدوار، وحكومات تقيم الجدران المادية والقانونية لمنعهم من الدخول.
دعاة تقييد الهجرة كثيراً ما يستغلون هذا التشابه لتصوير طالبي اللجوء والمهاجرين كما لو كانوا كتلة مهدِّدة ومتشابهة من البشر تجلب الجريمة والأيديولوجيات الخطيرة، وتستنزف موارد البلد المُضيف. غير أن المدافعين عن الهجرة يقعون أيضاً في نوع خاص بهم من الاختزال. ذلك أن «جزءاً كبيراً من صحافة الهجرة اليسارية لا يخرج عن إطار هذه الصيغة شبه الثابتة: شخص يائس يغادر بلادَه، ويبحث عن المساعدة في عالم قاتم ووحشي»، كما تكتب الكاتبة والصحافية الأميركية اليونانية لورين ماركهام، في فقرة من كتابها الجديد «خريطة لأطلال المستقبل.. عن الحدود والانتماء». أو كما قال ثيو أليكسيليس، وهو مسؤول مع مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين في جزيرة ليسبوس اليونانية، للمؤلفة، هناك نوعان فقط من القصص التي يحكيها الناس عن المهاجرين: «إنهم إما إرهابيون ومجرمون أو حالات محزنة ومثيرة للشفقة».
وبالطبع فكل لاجئ أو طالب لجوء هو فرد متفرد له قصة حياة متفردة ومزايا وسمات وعيوب يختص بها، لكن تبرير وجوده في بلد جديد يقتضي سرد قصة فرار من شظف العيش. وكما كتب الشاعر البريطاني الصومالي وارسان شاير، فـ«لا أحد يغادر بيتَه إلا إذا كان هذا البيت فَمَ قرشٍ». بيد أن التعود على سماع هذه القصص يمكن أن يكون ضد مصلحتهم. وفي هذا الصدد، تكتب ماركهام أن طالبي اللجوء «كثيراً ما يجدون طلباتهم تُرفض لأن قصصهم تبدو جد متشابهة»، مشيرةً إلى أنه كلّما امتدّ عمل قضاة الهجرة ومسؤولي اللجوء في وظائفهم، ارتفعت حالات الرفض التي يصدرونها. وذلك لأن القصص تفقد قوتَها وتأثيرَها مع مرور الوقت.
كتاب ماركهام يحاول تسويق نوع مختلف من القصص. وهناك قصةٌ صحافيةٌ تقليديةٌ في وسطه حول الحريق الذي شبّ في «مخيم موريا» للاجئين بجزيرة ليسبوس في سبتمبر 2020، ما أسفر عن ترك 13 ألف شخص من دون مأوى في أوج جائحة كوفيد. ستةُ طالبي لجوء أفغان أُدينوا بتهمة إضرام النار، اثنان منهم قاصران، رغم عدد من التحقيقات التي أثارت شكوكاً جديةً بشأن الأدلة التي استخدمت ضدهم، وكذلك الخروقات القانونية التي شابت محاكمتهم. وقد سبق لماركهام، التي تكتب عن قضايا اللاجئين وتدافع عنهم منذ عقود، أن غطّت قضية «متهمي مخيم موريا الستة» لحساب صحيفة «ذا غاريان» البريطانية، لكن أثناء مواصلة عملها كمراسلة صحافية في اليونان، وجدت نفسَها «تحيد عن المسار عن قصد»، على حد تعبيرها.
ومما يعلق في ذهن قارئ هذا الكتاب هو قصة عن اليونان وما تمثّله. وبالنسبة لطالبي اللجوء مثل «متهمي مخيم موريا الستة»، تمثّل اليونان بوابة أوروبا وفرصة للاستقرار والازدهار. أما وجود مخيمات تشبه الجحيم مثل «موريا»، فمردّه إلى قانون صادر عن الاتحاد الأوروبي يقضي بأن البلد الأول الذي يصل إليه اللاجئون هو البلد الذي ينبغي أن يتولى دراسة طلبات اللجوء والبتّ فيها، وإنْ كان معظم اللاجئين لا ينوون البقاء فيه. وبالمقابل، يمثّل البلد مصدر هوية، بالنسبة لأميركيين يونانيين مثل عائلة ماركهام إذ تقول: «إن العديد من الأشخاص البيض في الولايات المتحدة يحرّكهم حنينٌ مماثلٌ إلى وطن بعيد رغم أنهم يؤيدون، صراحةً أو ضمناً، استبعاد المهاجرين المعاصرين». غير أنه بالنسبة لجزء كبير من الغرب، بمن في ذلك ملايين السياح الذين يزورون البلاد كل سنة، تمثّل اليونان «قصة أصل حضاري»، ومسقط رأس الديمقراطية، ومهد الثقافة. هذه الفكرة يأخذها اليمين المتطرف إلى أقصى حدودها المنطقية: فإذا رأيتَ تمثالا نصفياً كلاسيكياً في الصورة الشخصية لحسابٍ على الشبكة الاجتماعية التي كانت تعرف بـ«تويتر» سابقاً، فالأرجح أنك تستطيع التنبؤ على نحو موثوق بآراء هذا الحساب بخصوص الهجرة والنسوية. وليس عبثاً أن اقترحت إدارة ترامب أمراً تنفيذياً في 2020 لـ«جعل المباني الفدرالية جميلة من جديد» عبر فرض استخدام الطراز الكلاسيكي.
وعلى الرغم من كل هذا، فإنه ليس هناك ما يشير إلى أن اليونانيين القدامى كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «بيض» أو «أوروبيون» بالمعنى المعاصر لهذين المصطلحين، كما تكتب ماركهام، التي تحاول استعادة اليونانيين القدامى من بعض معجبيهم المعاصرين، مشيرةً إلى أن مصطلح «اللجوء» (asylum) مشتق من كلمة «أصوليا» (asulia) اليونانية القديمة، إذ كتبت قائلةً: «كان اليونانيون في وقت من الأوقات يؤمنون إلى حد كبير بأن إحدى الوظائف الأخلاقية للدولة هي توفير ملاذ للأفراد الذين تكون حياتهم معرضة للخطر في مكان آخر». ورغم أن هذا قد يكون صحيحاً، إلا أنه يشير إلى أن العالم القديم ربما كان متنوعاً من الناحية السياسية بما يكفي، وظروفه كانت مختلفة بما يكفي عن الظروف الحالية، بحيث يمكن استدعاؤه والتوسّل به من قبل أي فصيل تقريباً في الحياة السياسية المعاصرة.
واليونان هي أيضاً بالطبع دولة- أمة معاصرة، تؤكد على ملكيتها لهذا التاريخ الكلاسيكي، بما في ذلك محاولات مستمرة للضغط على المتحف البريطاني لإعادة منحوتات إغريقية قديمة إليها، وإنْ كانت ماركهام تقول إنه على مدى عدة قرون «لم يكن أي شعور بالتقارب والألفة موجوداً بين المتحدثين باليونانية» حتى الأمس القريب، على حدّ تعبير المؤرخ رودريك بيتون. وقد تشكّلت اليونان المعاصرة أيضاً من خلال موجات هجرة سابقة، أبرزها طرد أكثر من مليون مسيحي يوناني من تركيا في العشرينيات. وفي إطار هذا التدفق البشري القادم من الشرق، أُدخلت إلى البلاد «البزوقي»، وهي الآلة الموسيقية الوترية التي باتت أصواتها ترمز إلى «اليونان» تماماً مثلما ترمز أصوات مزمار القربة إلى اسكتلندا والسيتار إلى الهند. والكثير من المناطق التي تأوي الآن مخيمات لاجئين مثل «مخيم موريا» يقطنها أشخاص ينحدرون من نسل أشخاص قاموا برحلة مماثلة عبر بحر إيجة قبل قرن من اليوم.
ماركهام تتنقل بين تغطية موجة الهجرة المعاصرة وهذا التاريخ، وتستطرد في روايات أسفارها ورحلاتها الصحفية والسياحية حول اليونان. ولئن كان السرد يتضمن لقاءات ومقابلات مع طالبي لجوء ومنظمات إغاثة ومسؤولين حكوميين وسكان محليين، فإن الكتاب يخوض بين الحين والآخر في تأملات ذاتية مفاجئة، إذ تتساءل المؤلفة بشأن منظورها لنقل قصص المهاجرين إلى القرّاء الغربيين. وتشير مقاربتُها إلى أن ما نحتاجه ليس مجرد مزيد من قصص الهجرة. فأحياناً، وبدلاً من أن نطلب من المهاجرين أن «يشرحوا أنفسهم»، ربما يجدر بالبلدان التي يحاولون الوصول إليها أن تحاول بذل جهد أكبر في المساءلة الذاتية.
محمد وقيف
الكتاب: خريطة لأطلال المستقبل.. عن الحدود والانتماء
المؤلفة: لورين ماركهام
الناشر: ريفرهيد بوكس
تاريخ النشر: فبراير 2024