يعتقد كثيرون أن الحديث عن البيئة واستدامة حمايتها أمر يتعلَّق بموضوعات محدَّدة لدى المجتمع العلمي، مثل ثُقب الأوزون، وانبعاث غازات الدفيئة... إلخ، ولكنَّ المسألة أعمق من ذلك، إذ تتخطَّى حدودُ الفكر السياسي الأخضر هذه الاهتمامات التقليدية إلى أبعاد ابتكارية أخرى تصل إلى التأثير في الأنماط الفكرية والسلوكية للفرد والمجتمع والدولة.
ولم تحظَ البيئة والطبيعة بكثير من اهتمام الفلسفة السياسية القديمة، فالأسس النظرية السياسية الكلاسيكية سعت إلى فَهْم طبيعة الأشياء السياسية بطرح أسئلة جوهرية عن علاقة السُّلطة بالمجتمع، مثل: ما أفضل أشكال السلطة السياسية لمجتمع معين؟ أو كيف يمكن الوصول إلى المدينة الفاضلة؟ وشكَّل هذان السؤالان وغيرهما محور النقاش والتفكُّر الإنساني في تلك المرحلة، في حين أن الفكر السياسي الأخضر يذهب إلى أبعاد أخرى عن طريق التركيز المعرفي على دراسة علاقة القضايا البيئية بالإنسان فلسفيّاً، ولذلك أصبح توضيح المراد بالفكر السياسي الأخضر ضرورة ملحَّة لفهم هذا التطور الفكري والنظري.
وينطلق الفكر السياسي الأخضر من ضرورة معياريَّة فلسفيَّة، متناولاً موضوع البيئة والسياسة والإنسان بصورة إشكاليَّة، وهي حاجة فلسفيَّة تُترجَم في صور أسئلة عميقة عن موضوع الإنسان والطبيعة، فمثلاً ما شكل العلاقة المطلوبة بين سعي الإنسان إلى التطوُّر والارتقاء حضاريّاً مع البيئة الطبيعية؟ وهل يُمكِن استدامة تطوُّر المجتمعات البشرية مع استدامة حماية البيئة الطبيعية؟ يمثل هذان التساؤلان جوهر المعضلة الأساسية المتمثلة في كيفية الجمع بين هذين المطلبيْن المهمَّيْن، فالتَّحدي المعرفي يتمثل في صراع الاستدامة لكل طرف من الأطراف، الأمر الذي يجعل مسألة بقاء الاستدامتين تحدياً واضحاً للجميع. ويتَّضح من السؤالين الهدف من وجود الفكر السياسي الأخضر، المتمثل في أن يتشكَّل فكر سياسي جديد يحمل في طيَّاته وعياً وفهماً لأهمية حماية البيئة عن طريق الاشتباك مع الأسئلة الكبرى التي يطرحها الفكر السياسي والفلسفة السياسية.
ولم تكن علاقة الإنسان بالطبيعة طبيعيَّة تماماً، إذ ما لبِث الإنسان أن أدرك أنه قادر على التحكُّم في الطبيعة، حتى اعتلَّ التوازن البيئي في النظام الطبيعي، فالتطور البشري صاحبه كثير من نزعات الجشع والطمع، التي جعلت الإنسان يتوهَّم أنَّه قادر على التحكم في قوى الطبيعة، وجعلها مطواعاً لرغباته الجموحة، وجشعه اللامحدود في بناء إمبراطوريته الحضاريَّة مهما كلَّف الأمر. صحيح أن بعض صفات النفس البشرية المتصلة بالجشع والطمع قادت الإنسان إلى تحقيق قفزات حضارية في مسيرة التطور والبناء البشري، غير أنَّها -في الوقت نفسه- استفزت الطبيعة ونظامها، فجاء الرد بكوارث بيئية وطبيعية توجه رسالة عنيفة إلى الإنسان وممارساته غير السويَّة تجاه البيئة، التي أخلَّت بتوازن كوكب الأرض. وهذه الكوارث في مجملها ما هي إلا محاولات الطبيعة لإعادة التوازن في النظام البيئي، التي تمثل ردات فعل على الأنشطة الإنسانية اللامسؤولة المسببة لاختلال التوازن البيئي. وتقودنا هذه الملاحظة إلى أنَّ بعض ممارسات الإنسان تمثل ظلماً للبيئة، ما يستدعي الحديث عن دور الفكر السياسي الأخضر في الدفاع عنها عن طريق ربط قضايا البيئة بفكرة العدالة.
وقد أنتج الاشتباك الفكري والفلسفي بين البيئة والسياسة كثيراً من المفاهيم والمناقشات بشأن أهمية البيئة، أبرزها موضوع العدالة البيئيَّة، ويُقصد بها أن تكون ثمة عدالة للبشر تحمي بيئتهم الطبيعية بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، مثل العِرق والدين واللون، وليس هذا فحسْب، بل يذهب مفهوم العدالة البيئيَّة إلى أنَّ للإنسان الحق الكامل في ألَّا يواجِه كوارث طبيعية ناجمة عن الممارسات البشرية السابقة. وبعبارة أخرى: تتعرَّض شعوب عدَّة لهول كوارث طبيعية تخلف كثيراً من الضحايا والدمار في دول العالم الثالث، وهذا المصير المأساوي تتحمَّل الدول الصناعية الكبرى جزءاً كبيراً من مسؤوليته، لكونها المستخدم الرئيسي لكثير من الصناعات التي تُلحق أضراراً بالبيئة، ومن هنا تصبح العدالة في حصول الإنسان على حق الحماية من التعرض لكوارث طبيعية مطلباً ضروريّاً لبقاء المجتمعات البشرية.
ويتطلب تبني الفكر السياسي الأخضر وتطبيقه مستوى عالياً من الإدراك الأخلاقي والسياسي، وذلك للأهمية التي تمثلها البيئة والموارد الطبيعية، فالتَّحلي بالحكمة حيال ضبط الطبيعة البشرية بجوانبها المعزِّزة للجشع والأنانية يساعد على تجنُّبنا مأساة حرمان الأجيال المقبلة حقها في استخدام الموارد الطبيعية، والاستمتاع بفوائد البيئة الطبيعية، ومزاياها.
وبناءً على ما سلف، وفي سياق دولة الإمارات العربية المتحدة، تتجلَّى ملامح الفكر السياسي الأخضر في الفلسفة العامَّة للمغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، التي تبرز تقديراً وامتناناً خاصَّيْن للبيئة، لكونها من الهبات الإلهيَّة للإنسان التي تسهم في بقائه وتطوره، ولذا نلحظ مساعيه -طيَّب الله ثراه- إلى تشجير صحراء دولة الإمارات عن طريق إطلاق كثير من المبادرات الحكوميّة الاتحاديَّة والمحليَّة، فقد كان -رحمه الله- الداعم الأول لقضية البيئة من دون أدنى تردد، وها هي دولة الإمارات اليوم تكمل هذه المسيرة الخضراء بتقديم الدعم القوي للموضوعات البيئية، وتجعلها من أولويات العمل الحكومي، فقد أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عام 2023 عامًا للاستدامة، ثم أعلن تمديد هذه المبادرة لتشمل العام الجاري.
ويتجسَّد الإسهام الاستثنائي لدولة الإمارات، على هذا الصعيد، باستضافة مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب28)، الذي استطاعت الدولة إدارته بكل اقتدار ونجاح، وجاء شاهداً على تبني فكر الاستدامة، فقد كان لهذا المؤتمر أثر فاعل ظهر في الاتفاق التاريخي، إذ حشدت دولة الإمارات الجهود الدولية لتحسين العمل المناخي الساعي إلى ضمان استدامة البيئة، وحمايتها، ونجحت في إعلان صندوق عالمي بقيمة 30 مليار دولار يهدف إلى إيجاد الحلول المناخية التي تساعد على تسهيل التمويل المناخي.
ولا شكَّ أن الجهود الإماراتية المتميزة في دعم العمل المناخي العالمي تسهِم في تحقيق الفكر السياسي الأخضر المنشود على مستوى العالم، الذي يؤدي إلى خلق وعي جديد حيال قضايا البيئة، ويدعم عمليَّة تصميم السياسات العامة الداعمة لحماية البيئة وصيانتها من أجل مستقبل بشري مزدهر.
وبناءً على ما سبق يمكننا الجزم أنَّ لدولة الإمارات العربية المتحدة فكراً سياسيّاً أخضر تستحقُّ أن تفخر به وتعتز، وهو فكر نيِّر صاغته قيادتها الرشيدة على نحو يشي ببصيرتها النافذة، ورؤيتها الثاقبة.
* مدير مركز جامعة الإمارات للسياسة العامة والقيادة، أستاذ مساعد للعلوم السياسية، جامعة الإمارات العربية المتحدة