عصر التقانة والمعلومات.. نعمة أم نقمة؟
بعيداً عن مجريات السياسة الخبرية هذه المرة، ومع ذلك تظل تداعيات عصر التقانة والمعلومات، في قلب أي عمل سياسي، فقد باتت المعلومات هي المادة الأكثر ثمناً من النفط في حاضرات أيامنا. نتساءل عن الجواب: «هل عصر الانفجار المعلوماتي حتى الساعة نعمة على البشرية، أم نقمة؟
التساؤل محدد بالحال الآني، لكن الجواب حكماً يتطلع للمستقبل القريب، فمن عالم الإنترنت وشبكة المعلومات العنكبوتية التي غيّرت الأوضاع وبدلت الطباع، انتقلت البشرية إلى زمان الـ «تشات جي بي تي»، المُخلقة لهياكل بنوية معرفية مثيرة وخطيرة. كيف يضحى الحال خلال عقدين ونصف، أي بالوصول إلى عام 2050، وبخاصة في ظل الذكاء الاصطناعي، والسوبر منه تحديداً، عطفاً على أدوات الرقائق الإلكترونية، ومقومات الحوسبة الكمومية..هل سنرى عصر استنارة جديدة، أم سنجد أنفسنا في مواجهات قراءة معكوسة من العتم الإلكتروني إن جاز التعبير؟
عشية عيد الميلاد عام 2009، حاول شاب نيجيري تفجير شحنة ناسفة على متن طائرة أميركية، كانت رحلة بين أمستردام وديترويت، لكن بعض ركاب الطائرة تمكنوا من السيطرة على الشاب، وإحباط محاولة التفجير. كيف قدّر لهذا الشاب القادم من بلاد تعد حياتياً محسوبة على العالم النامي، من التخطيط والتنظيم لاختطاف طائرة على هذا النحو؟
عقب الحادث، اعترف الرئيس الأميركي وقتها، باراك أوباما، بأن المشكلة التي واجهت الشاب ودفعته في هذا السياق، لم تكن نقص المعلومات، بل في زيادتها المفرطة، ويومها قال:«لم يكن هذا إخفاقاً في جمع المعلومات، بل كان إخفاقاً في استيعاب المعلومات التي كانت بين أيدينا». هل الانفجار المعلوماتي يسهّل من حياة البشرية أم يعقدها؟
من الواضح أن مفهوماً ثقافياً سيطر على العقول الغربية منذ عصر النهضة وأزمنة التتوير، مفاده أن مزيداً من المعلومات يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل، لكن الحقيقة هي أن عصر المعلومات يجعل العالم أشد التباساً. يحاجج علماء الاجتماع بأنه عبر العلوم والمجتمع، وفي السياسة والتربية، والحرب والتجارة، لا تعزز التقانات الجديدة قدراتنا فقط، بل تشكلها وتوجهها بقوة نحو الأفضل أو الأسوأ.
يتسق هذا الحديث وما بات يُعرف حديثاً بـ«المعلومات المزيفة»، والتي تبدو في حقيقة الحال، «آفة القرن الحادي والعشرين»، ذلك أنه مع الزخم المعلوماتي الكبير الذي يشتد من حولنا، بات الفصل بين الغث والثمين، الحقيقي والمزيف، أمراً صعباً. يكفي للمرء أن يستحضر ما قاله الفيلسوف والسيميائي الإيطالي الراحل «إمبرتو إيكو»، عمن أسماهم «فيالق الحمقى»، أولئك الذين كان إذا دخل أحدهم في الماضي إحدى الحانات، وبدأ يفقد توازنه العقلي، ويتحدث فيما لا يعرف، كان يتم إسكاته من جانب العقلاء والنجباء، أما اليوم فمن لديه «هاتف ذكي»، فإنه يمتلك صحيفة خاصة وإذاعة مستقلة، وقناة تلفزيونية يمكنها أن تبث ما تريد، ما يعني أننا أضحينا أمام احتمال قائم بأن يوجه هؤلاء الجهلاء مسارات البشرية إن أرادوا.
هل سيظل العقلاء عاقدي الأذرع على الصدور؟ تشتد في الحقيقة الحاجة إلى ضرورة التفكير في التقانات الجديدة بطرق مغايرة، ونقدها، كي نشارك جدياً في ذلك التشكيل والتوجيه. أما إذا لم نفهم مدى تعقيد وظيفة التقانات، وكيف تترابط نظمها، وكيف تفاعل ميكانيزمات تلك النظم، فيما بينها، فآنذاك قد يصيبنا الضعف، ويسهل على النخب الأنانية والشركات البربرية الاستيلاء على إمكاناتها. البشربة على موعد مخيف مع عالم قد يتراجع فيه الجنس البشري عن قيادة الخليقة لصالح الروبوتات، وما نراه اليوم على شاشات هوليوود من قبيل «الخيال العلمي»، قد يضحى غداً نوعاً من الواقع المخيف، ويكفي المرء أن يتذكر ما قاله ثعلب السياسة الأميركية الراحل هنري كيسنجر عن الذكاء الاصطناعي حين وصفه بالديكتاتور الخالد.
*كاتب مصري