من أراد أن يفهم العديد من السياسات الخارجية الأميركية اليوم، يمكنه أن يستحضر حياة هنري كيسنجر الذي فارق الحياة منذ أسابيع، فهذا الرجل الأكاديمي أصلاً هو أحد منظري وخدّام الواقعية السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، وقد عُرف بدهائه السياسي ومناوراته المتنوعة في أحداث دولية شهيرة متفرقة من قبيل حرب فيتنام والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ومفاوضات حل الصراع العربي الإسرائيلي.. إلخ.
لم تنته الحياة السياسية لكيسنجر بمجرد انتهاء إدارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، بل العكس من ذلك إذ أصبح مستشاراً معلناً وغير معلن لكل الإدارات الأميركية وواحداً من خدامها وموجهي سياساتها الرئيسيين.
قام كيسنجر بمأسسة الواقعية السياسية من خلال عقيدته الواقعية وتواصله السري، وكان من نتائج ذلك الانفتاح الأميركي على الصين، وتطبيع العلاقات بين البلدين عقب رحلتين سريتين قام بهما في عام 1971، حيث مهد الطريق لزيارة نيكسون لبكين عام 1972.. وكان يؤمن بأن عزل الاتحاد السوفييتي أكثر فأكثر يمر من خلال إدماج الصين في الاقتصاد الدولي وعدم عزلها عن النظام العالمي.
كما أن واقعيته السياسية وميله إلى تبني نهج الانفراج ساعدا في تخفيف التوترات بين أميركا والاتحاد السوفييتي وصولاً إلى التوقيع على العديد من اتفاقيات الحد من الأسلحة. لكن هذه الواقعية السياسية كانت تضع مصالح أميركا ومصالح القوى العالمية المتحالفة معها فوق مصالح الديمقراطية والقانون الدولي وحقوق الإنسان.. إلخ.
وقد اتبع الدكتور كيسنجر سياسية الرحلات المكوكية إلى الشرق الأوسط لوقف حرب 6 أكتوبر عام 1973 بين العرب وإسرائيل، وبالطبع لم يكن ذلك حباً للسلام أو إيماناً بقواعده بل كان دفاعاً عن إسرائيل ومصالحها بالدرجة الأولى، من خلال دعمها مادياً ولوجيستياً وأممياً وتمكينها من تعديل موازين القوة لصالحها. وقد نجح في إقناع الرئيس نيكسون ووزير الدفاع جيمس شليزنغر بإقامة جسر جوي لإمداد إسرائيل بالسلاح والعتاد، وأوقف انعقادَ جلسة لمجلس الأمن لإقرار وقف إطلاق النار. وانطلاقاً من عقيدته السياسية -كما كتب ذلك في مذكراته- كان يصعب عليه أن يقبل تَعرُّضَ إسرائيل للهزيمة ولو أدى ذلك إلى تدخل أميركي على حساب قواعد القانون الدولي. ولعل هذه العقيدة السياسية هي التي تفسر ما يجري اليومَ في المنطقة وما نشاهده من ازدواجية في المعايير، والتي إن لم تكتب علناً في أبجديات السياسة الواقعية الأميركية فهي جزء لا يتجزأ منها.
الواقعية السياسية الأميركية تستفيد من ضعف منظمة الأمم المتحدة التي أراد المسطِّرون لميثاقها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أن تكون قلعة عالمية للسلم ومؤسسة لها شرعية دولية تتدخل بناءً على قواعد دقيقة لتثبيت السلم والأمن والأمان في كل أنحاء المعمور، لكن هيهات هيهات! فطبيعة بنية مجلس الأمن الدولي وتوجهات أعضائه الدائمين والتناقضات الاستراتيجية والمصالح الآنية والمستمرة.. كل ذلك يجعلنا أمام مسرحية أو كارنفال عقيم أبطاله قوى دائمة تتوفر على حق النقض (الفيتو)، وقد اتفقت في ما بينها على أن لا تتفق، وحتى إذا اتفقت فذلك يبقى حبراً على ورق.
*أكاديمي مغربي