الحنين أداةٌ سياسيةٌ قويةٌ. واستخدام الحنين إلى حقبة خلت، حقبة توصف وصفاً مضللاً بأشكال متنوعة، سلاحٌ تفضّله الحركاتُ اليمينية المتشددة («لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»)، إذ يعود بنا إلى زمن ما قبل «تلوّث» بلادهم بـ«القوى الخبيثة». وفي الولايات المتحدة، يروق هذا الحنين إلى الماضي للقومية المسيحية البيضاء ويلعب على ذاكرات معطوبة، وإن بصيغٍ أكثر اعتدالاً من قبيل: «إن السياسة لم تكن بهذه الفظاظة» أو «هل تتذكر أيام التعاون بين الحزبين؟». والحال أنك إذا عدتَ حقاً لدراسة تاريخ الولايات المتحدة، فإنك ستجد شيئين: أن الماضي لم يكن أجمل وأن الصراع كان دائماً هو القاعدة.
ببساطة، لم يكن الماضي «أفضل»، وفقاً لأي معيار موضوعي، فاقتصادياً، كنا جميعاً أفقر بكثير. وكما كتب ماثيو إيجليسياس: «في 1960، كان هناك ما يناهز 400 سيارة لكل 1000 أميركي، أي نحو نصف معدل ملكية السيارات الحالي. بعبارة أخرى، كان بإمكان الأسرة في 1960 شراء سيارة واحدة، لكن اليوم يمكن أن تكون لديها سيارتان».
كما كانت الجريمة أعلى بكثيرٍ في السبعينيات. والفقر، وكذلك وفيات الأطفال، والوفيات الناجمة عن الأمراض الصعبة، والإصابات في أماكن العمل، معدلات الانقطاع عن الدراسة.. كلها كانت أسوأ بكثير في الخمسينيات. وإلى ذلك، كان الأطفال يصابون بشلل الأطفال، وكان الفصل العنصري في أوجه، ولم يكن لدى أحد هواتف محمولة أو حواسيب منزلية أو أفران ميكروويف. كما أن قلة قليلة من الناس فقط كانت تمتلك مكيّفات هواء أو لها القدرة المادية على تحمل تكاليف السفر على متن الطائرة.
وقد تكونُ ممن ينددون عن حق بالتفاوت في الدخل اليوم، غير أنه منذ عام 2007، أخذ هذا التفاوت في الانخفاض. في الثلاثينيات، كان هناك الكساد الكبير، فهل تفضل الأربعينيات؟ كانت فيها الحرب العالمية الثانية. وبعدها جاءت المكارثية (اتهام الخصوم السياسيين بالخيانة أو الميول الشيوعية من دون أدلة) والحرب الباردة. وما بال الستينيات؟ أعمال الشغب والاغتيالات وحرب فيتنام. أفهمت القصد؟ رغم أن أولئك الذين ينتقدون الحداثة والتعددية والتسامح والحرية الشخصية.. خدمةً للسلطة الاستبدادية، يرغبون في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلا أن قراءة التاريخ تشير إلى أن الوقت الراهن هو أفضل وقت للعيش.
وهذا ما يقودنا إلى أسطورة التعاون بين الحزبين والوحدة والسياسة الخالية من التشنج. فمنذ البداية، كانت السياسة في أميركا تتميز بالتعصب والتوتر. وفي هذا السياق، يذكّرنا عرضُ صحيفة «واشنطن بوست» لكتاب «إتش دبليو براندز» الأخير، «الحزبيون المؤسِّسون: هاميلتون، وماديسون، وجيفرسون، وآدامز والولادة الصاخبة للسياسة الأميركية»، بأن هؤلاء «سارعوا جميعاً إلى افتراض الأسوأ في بعضهم البعض: إذ خلص جيفرسون، الذي شاهد الحكومة وهي تجمع السلطة وتتحمل ديون الدولة، إلى أن الفيدراليين التابعين لهاميلتون كانوا ملكيين ومموِّلين فاسدين «يخططون لخيانة الشعب» منذ الاستقلال. وبالمقابل، «كان الفيدراليون يعتقدون أن الجمهوريين مختلّون أيديولوجياً» إلى درجة تقارب الخيانة.
ولننتقل بسرعة الآن إلى منتصف القرن التاسع عشر: البلاد ممزقة بسبب العبودية، تلت ذلك حربٌ أهليةٌ داميةٌ، وبعدها يوفّر الاحتلال العسكري للجنوب (إعادة الإعمار) فترة فاصلة قصيرة، ثم يعود الفصل العنصري القاسي.
ويمكنك تأمل تاريخ الإهانات الرئاسية، والخلافات المدمرة، والعنف في الكونجرس. فلا شيء من هذا يشير إلى أننا استمتعنا في أميركا بفترة ذهبية مستدامة من الوحدة. ولا شك في أنه كانت لدينا فترات راحة قصيرة عندما وحّدت الحرب العالمية الثانية البلاد، وعندما لم تكن الفجوات الأيديولوجية بين الأحزاب بالحجم الذي باتت عليه اليوم. غير أننا «كنا ننجز الأمور» في الغالب عندما كان يقصى حزبٌ واحدٌ («الجمهوريون» عادة في العصر الحديث) في الانتخابات، مما سمح لـ«الديمقراطيين» بسنّ قانونَيْ «الصفقة الجديدة» و«المجتمع العظيم». وفي الأثناء، كان الجمهوريون يسعون لتشويه سمعة الديمقراطيين (حتى إنهم حاولوا الانقلاب على فرانكلين روزفلت).
غير أن ما لم نشهده من قبل هو رئيسٌ رفض الديمقراطية، وحاول الاحتفاظ بالسلطة عنوةً، وانتهى به الأمر إلى تلقي 91 تهمة جنائية. إن ما نتج عن فترة دونالد ترامب، الذي وُجهت له لوائح اتهام أربع مرات، من سموم وعنف وفقدان الثقة في الانتخابات ألحق خسائر فادحة بديمقراطيتنا.
كيف هو الوضع الآن؟ الواقع أن الماضي لم يكن أحسن من الحاضر كان أسوأ بكثير وبطرق عديدة. والحق أن الصراع، بل وحتى العنف، كان حاضراً باستمرار في الحياة الأميركية. لكن كذلك الحال أيضاً بالنسبة للتقدّم نحو قدر أكبر من الحرية والرخاء، وإن كان يتوقف أحياناً. ونتيجة لذلك، نعيش اليوم حياة أكثر صحةً وأطول أمداً. وعليه، يمكن القول إن القرن الحادي والعشرين دليلٌ على أننا شعب يتمتع بالمرونة.
ولذا، علينا أن نكون حذرين ونحن نتطلع إلى 2024: فالحنين، وخاصة الحنين إلى زمن يتميز بقدر أقل من الحرية والفرص والحقوق بالنسبة للكثيرين منا، هو من قبيل الأوهام التي يبيعها الدجالون للناس. وبدلاً من ذلك، يجدر بالأميركيين المراهنة على التقدّم الأميركي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»