يُمثّل الاندماج النووي -الذي يُعزَى إليه سبب توهُّج النجوم، ومنها الشمس- واحداً من أكثر البحوث والموضوعات إثارة في مجال الطاقة المستدامة والنظيفة اليوم. ويتضمن الاندماج النووي -في جوهره- دمج نوى ذرات خفيفة مثل الهيدروجين لتكوين نوًى أثقل مثل الهيليوم، وهو تحوُّل يُطلق كميات كبيرة من الطاقة ناتجة من الفرق في الكتلة بين النوى المتفاعلة والنوى المنتجة، وهذا الفرق في الكتلة -وفقًا لمعادلة أينشتاين المشهورة (E=mc²)- يتحوَّل طاقة. وتختلف هذه العملية جذريًّا عن الانشطار النووي الذي يعتمد على تقسيم النوى الذرية الثقيلة.
ويتطلَّب تحقيق الاندماج النووي، في بيئة مُسيطَر عليها، توفير شروط قاسية تشبه تلك الموجودة في قلب النجوم، مثل درجات حرارة تُقدَّر بملايين الدرجات، وضغوط شديدة لإنتاج بلازما شديدة الحرارة يمكن عن طريقها تحفيز النوى للتغلُّب على قوى التنافر الكهربائية والاندماج معاً. وعند إنشاء البلازما (الحالة الرابعة من المادة) تتحرَّر الإلكترونات من الذرات، تاركة النوى حرة للتفاعل. ويتضمن الاندماج الأكثر شيوعاً نوى الهيدروجين، مثل الديوتيريوم والتريتيوم، ويُنتج الهيليوم نيوترونات ذات طاقة عالية.
وأما العقبة الرئيسية لتحقيق الاندماج النووي في المفاعلات، فتكمُن في كيفيَّة احتواء البلازما الساخنة والتحكم فيها، وفي هذا السياق تُستخدَم تقنيات متقدمة مثل الاحتواء المغناطيسي، أو استخدام الليزر. ويُعد الوصول إلى تفاعل الاندماج النووي المستدام والفعَّال أحد أكبر التحديات التي تواجه العلماء اليوم، ولكن هذا النوع من الاندماج -إذا تحقَّق- يَعِد بتوفير مصدر طاقة لا ينضب تقريباً، مع انبعاثات ضئيلة جدًّا أو معدومة، ما يجعله خياراً مثاليّاً لمستقبل الطاقة المستدامة.
ويمثل الاندماج النووي، بمختلف أنواعه، مساراً محتملًا لتوفير مصدر طاقة نظيف ومستدام. ونستعرض فيما يأتي أنواع الاندماج النووي مع التركيز على التفاصيل التقنية لكل نوع:
الاندماج النووي الحراري: يعتمد هذا النوع من الاندماج على تسخين الوقود النووي إلى درجات حرارة عالية جدًّا لتكوين بلازما. وتشمل الأمثلة تفاعل الديوتيريوم-تريتيوم، إذ تُسخَّن هذه النوى إلى درجات حرارة تصل إلى مئات الملايين من الدرجات المئوية، ويتطلب هذا الاندماج تقنيات متقدمة للتسخين والاحتواء، مثل استخدام الأمواج الراديوية، أو الأشعة فوق البنفسجية، لتسخين البلازما.
الاندماج بالاحتواء المغناطيسي: يتطلَّب هذا النوع مجالات مغناطيسية قوية لاحتواء البلازما والتحكم فيها. وتُستخدم الأجهزة مثل توكاماك وستيلاريتور لإنشاء حلقة مغلقة من البلازما. ويتطلب الاحتواء المغناطيسي مغناطيسات فائقة التوصيل لإيجاد مجالات مغناطيسية شديدة، ما يستدعي طاقة كبيرة، وتبريداً مكثفاً.
الاندماج بالاحتواء الخامل: يَستخدم هذا النوع أشعة الليزر أو الأشعة الأخرى لضغط كريات صغيرة من الوقود النووي، وتسخينها. ويُعرف أحد أساليبه ب«الاشتعال السريع»، وتُستخدَم فيه أشعة ليزر قوية لضغط الوقود وتسخينه بسرعة كبيرة. ويتطلَّب هذا النوع من الاندماج تحكمًا دقيقًا في توقيت الأشعة، وشدتها.
الاندماج البارد: مفهوم نظري يهدف إلى تحقيق الاندماج النووي في ظروف درجات حرارة منخفضة نسبيّاً، ويجري ذلك عادةً باستخدام أقطاب كهربائية في بيئة كيميائية خاصة، ولكنْ هذا النوع من الاندماج لم يُثبَت بوجه قاطع في التجارب العلمية حتى الآن.
الاندماج النووي باستخدام المحفزات: يتضمَّن هذا النوع استخدام المحفزات لتسهيل الاندماج النووي، وأحد الأمثلة هو دورة محفزة تتضمن البورون والهيدروجين، ويُستخدم البورون محفزًا لتحقيق الاندماج بين نوى الهيدروجين. ويتميز هذا النوع بأنه ينتج كميات أقل من النيوترونات النشيطة، ما يقلل المخاطر الإشعاعية.
الاندماج النووي الصناعي: يشير هذا النوع إلى استخدام الجسيمات المُسرعة لإحداث الاندماج، وتُسرَّع الجسيمات باستخدام مُسرعات الجسيمات وإطلاقها نحو الوقود النووي. وتواجِه هذه التقنية، التي لا تزال قيد البحث، تحديات كبيرة من حيث الكفاءة والتكلفة.
وتتطلَّب كل هذه الأنواع من الاندماج النووي تقنيات متقدمة، وبحثاً مستمرّاً للتغلب على التحديات الكبيرة المتعلقة بالتحكم في البلازما، والتفاعلات النووية، ولا شك في أن تحقيق أي تقدم في هذا المجال يمثّل خطوة كبيرة نحو مستقبل الطاقة المستدامة، إذ تُعد تقنية الاندماج النووي أحد أبرز مصادر الطاقة الواعدة مستقبلًا، ولا سيَّما أنها توفر طاقة نظيفة ومستدامة بكميات كبيرة، غير أنَّ تطويرها للاستخدام التجاري قد يستغرق عقوداً أخرى من البحث والتطوير.
ويُعد الاندماج النووي رمزاً للتقدم العلمي والتقني، ويُظهِر تحدي تحقيق هذه العملية الشديدة التعقيد كيف يمكن للتكنولوجيا أن تفتح أبوابًا جديدة لمستقبل الطاقة. وبينما نستمر في سعينا إلى تحقيق الاندماج النووي يظل الأمل قائماً في أن نصل يوماً إلى مصدر طاقة يحاكي النجوم.
د. أحمد خليفة الكعبي
أستاذ في جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا ومدير مركز التعاون بين جامعة خليفة والوكالة الدولية للطاقة النووية