سبينوزا ومشروع التنوير العربي
في كتابه الأخير الصادر بـ«الفرنسية» بعنوان «كتابات كوفيد»، يتساءل المفكر المغربي عبد الله العروي حول أهمية سبينوزا بالنسبة لأوضاع المجتمعات العربية المعاصرة، بالمقارنة مع مونتسكيو وروسو اللذين ترجم العروي بعض نصوصهما الأساسية. لا يتردد العروي في القول إن إشكالية سبينوزا غريبة عنا في سياقاتها الفلسفية والمجتمعية، ولا مكان لها في واقعنا الراهن.
ويبدو أن العروي قد اطلع على ما يسمى لدى المتخصصين بالتأويلات الراديكالية لفلسفة سبينوزا التي ترجع إلى الثالوث الماركسي لويس التوسير وجيل دلوز وتوني نغري، وهي قراءات تركز على مفاهيم الجمهور والقوة والمادة والرغبة.. في انطولوجيا سبينوزا وتصوراته السياسية.
وبطبيعة الحال تختلف هذه التأويلات عن مقاربات معروفة، من بينها القراءة الليبرالية التي تقرّب فكر سبينوزا من نظرية العقد الاجتماعي ومعايير الديمقراطية التمثيلية، والقراءة المحافظة التي اشتهرت لدى ليو شتراوس. إلا أن القراءات الراديكالية قد تأثرت بالعمل الشهير لـ«يوناتان إسرائيل» حول «التنوير الراديكالي لسبينوزا»، مقابل نمطين آخرين من التنوير هما: التنوير المعتدل لدى لوك ولايبنتز، حيث تمتزج العقلانية النقدية بالتصورات الدينية الإصلاحية، والتنوير المحافظ لدى مونتسكيو وفولتير وادمون بورك الذي لا يدعو للثورة والتغيير الجذري بل يتبنى التكيفَ مع الواقع القائم. لا يهمنا التعليق على هذا التصنيف الذي أصبح شائعاً في دراسات التنوير الأوروبي، لكن ما نريد أن نبينه هو أن سبينوزا، على عكس ما يوحي به كلام العروي، قد يكون أقرب فلاسفة الحداثة والتنوير إلينا.
لندع جانباً الأعمال التي حاولت الكشف عن الجذور الإسلامية العربية في فكر سبينوزا، الفيلسوف اليهودي الهولندي الذي ترجع أصوله إلى البلاد الإيبرية، والذي لا شك في أنه اطلع على الترجمات العبرية للفلاسفة العرب، وإن كان لا يذكرهم في نصوصه، كما أن علاقته بموسى ابن ميمون تلميذ ابن رشد معروفة للجميع. ويمكن أن نحيل هنا إلى دراسات المستشرقين من أمثال هاري ولفسون وروجيه أرنالديز.. إلخ، التي تحدثت عن التماثل بين أفكار فلاسفة الإسلام من قبيل ابن سينا وابن رشد وآراء سبينوزا، وفي كتابات الفيلسوف الهولندي ما يعزز هذا الانطباع.
بل إن مخطط كتاب سبينوزا الأساسي «الأخلاق» ومفاهيمه المحورية ومصطلحاته المستخدمة تتشابه بصفة جلية مع التقليد الكلامي الإسلامي، كما هو شأن كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» الذي يتوزع على طريقة الكلام الاعتزالي إلى بابي التوحيد والعدل، وفي الباب الأول من كتاب الأخلاق الذي يتحدث فيه عن الإله نجد العبارات نفسها الكلامية: الذات والصفات والأحوال ونرى التمييز السينوي الشهير بين واجب الوجود وممكن الوجود.
إن هذه السمات المنهجية والاصطلاحية هي التي حدت بهيغل إلى اعتباره «فليسوفاً شرقياً»، وأدت إلى تجاهله كلياً في نصوص هايدغر رغم تناوله المستفيض لكل فصول الفلسفة الغربية. وعلى الرغم من النقاش المعروف حول طبيعة موقف سبينوزا من الدين واعتباره لدى البعض فيلسوفاً مادياً يقف عند وحدة الطبيعة (وإن كان يراه آخرون صوفياً مؤمناً بوحدة الوجود)، فإن بعض كبار الباحثين (مثل أحمد العلمي ومروان راشد) بيَّنوا أوجه الشبه بين أطروحة الوجود السبينوزية وانطولوجيا الحال في المدرسة الجبَّائية الاعتزالية.
قد لا تكون هذه الجوانب الميتافيزيقية هي ما يهم الفكر العربي المعاصر في فلسفة سبينوزا، بل إن التركيز يمكن أن يكون على جوانب التأويلية النقدية والتنوير السياسي والاجتماعي. ولا شك في أن المفكر المصري الراحل حسن حنفي قد أسهم إسهاماً كبيراً في التعريف بهذه الجوانب من فلسفة سبينوزا من خلال ترجمته لكتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة» عام 1971 مع كتابة مقدمة طويلة ووافية للنسخة المعرَّبة.
لقد اعتبر حنفي أن الفكر العربي قادر على الاستفادة من المنهج التأويلي السبينوزي الذي ينطلق من معايير العقلانية والقانون الطبيعي والحكمة الإنسانية في قراءة النصوص المقدسة، وهو منهج رشدي أصيل في تراثنا الإسلامي. كما أنه بحاجة إلى سبينوزا في الدفاع عن حرية التفكير وحرية التعبير والولاء للدولة الوطنية المعبِّرة عن التوافق الاجتماعي والقادرة على ضمان السلم الأهلي والمدني.
لا مناص من موافقة العروي في أن اهتمامات سبينوزا مختلفة عن سياقنا الراهن، وإشكاليته مغايرة لوضعنا المعرفي والفكري، لكن سبينوزا يظل في نهاية المطاف أقرب فلاسفة الحداثة الأوربية لنا، وإن كان يتعين علينا أن ننقل مفاهيمه وتصوراته إلى حقلنا الدلالي دون وثوقية أو تعصب.
*أكاديمي موريتاني