الفارابي ونظرية العقول الأربعة
شعلة من الفرح والغرور كانت تتقد بداخل الواحد منّا، عندما يحاط بالمدح، إذ يستشعر بتفرد شخصه مقارنة بغيره. ولو تذكرنا طفولتنا بدقة لوقفنا على العديد من هذه المشاعر إزاء ما يتردد على ألسنة والدينا عندما يصفوننا بالذكاء أو النشاط أو العقل!
ربما كانت تشدنا آنذاك صفات الحصافة والفطنة، ومعلوم كم تعني جملة «فلان عاقل»، لدى الطفل، فهي عبارة موجودة في العديد من اللهجات، يتداولها العوام غالباً للإشارة إلى حسن سلوك الفرد ورزانة شخصيته وابتعاده عن الطيش التهور فعلاً وقولاً.
وإذا وسَّعنا دائرةَ العقل قليلاً، فهل يتشابه كل العقلاء في إمكاناتهم الذهنية، وهل يتشابهون في استخداماتهم للعقل نفسه؟ انطلق غالبية الفلاسفة والمفكرين والعلماء من أرضيات منهجية متباينة في تفسير العقل وماهيته، وجاء في المعجم الفلسفي أنه إما أن يكون دالاً على الوقار، فهو إذن صفة ظاهرة في سلوك الإنسان عامةً، وإما أن يدل على المكتسب من المعاني والأحكام الكلية، فيترجم من خلال اختياراته للأغراض والمصالح، وإما أن يكون دالاً على ما يوافق الفطرة فيحسن الإنسان التمييز بين الغث والسمين.
وفي سبيل الحصول على صورة مكتملة حول ماهية العقل، وبخاصة في الفلسفة الإسلامية، لا بد من الإمعان في فلسفة الفارابي الذي خصص جهداً وفيراً في هذا المجال، سعياً منه إلى كشف الطرق الرئيسة للتفكير، وصولاً لفكرة سليمة يمكن الأخذ بها من خلال «قوة الذهن» التي تعين على إدراك الصواب وتمييزه من غيره. ولعل هذا ما نجد ترجمته في العديد من كتب التنمية البشرية التي تعين الإنسان على الاقتراب أكثر فأكثر من ترشيد تفكيره وإكسابه التسلسل المنطقي.
ويبني الفارابي نظريتَه حول العقل على أربعة مستويات رئيسة؛ أولها العقل بالقوة (العقل الهيولاني)، ويدل على التهيؤ والاستعداد العقلي لقبول كل ما يوافق المعقول والمنطقي، من خلال صور الأشياء وماهيتها الموجودة في الطبيعة، وبالتالي فالطبيعة تتحد بقوة وجودها مع العقل.
وأما النوع الثاني فهو «العقل بالفعل»، والذي يعبر عن انعكاس صورته في النوع الأول، مما يعني أن هيئته مترجمة كفعل معاش، مما يدل على ارتقاء العقل الإنساني متجهاً نحو إدراك شيء وليس التوقف على التعرف عليه وحسب. وفي التدرج المنطقي، وإمعان العقل الإنساني بحذق، يأتي نوع آخر من العقل، هو «العقل المستفاد»، إذ يبني على استيعابه للمعقول، وصيرورته الوظيفية لمستوى الإدراك الذي يتدرج بتناغم ومنطقية.
مما يعني أن تسلسل هذه الأنواع هو تعبير تصاعدي عن تكوين «عملية الإدراك»، التي تسمو وتتصاعد إزاء المحسوسات، فكلما زاد إدراك الإنسان ابتعد عن ملاحظة المادة واقترب لما وراء المحسوس.
وما يزال الإنسان يعتبر مصدراً للدهشة الذي يسببها لنفسه، من خلال التفكر والتدبر في هذه الكينونة المغمورة، حتى وصفها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالقول: «وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر»!
وربما تعبّر كل الشروحات والإيضاحات السابقة عن مستويات تدرج التفكير الإنساني وحسب، أما ما يتممها فيبدو أنه النوع الرابع من العقل، الذي ينتقل بالإنسان من طور الاستعداد للمعرفة إلى الإدراك الفعلي، أي «العقل الفعال»، وهو الذي يتربع على قمة الهرم في نظرية العقل الفارابية، مستغنياً عن الجمود في المادة المجردة، ومرتقياً عن ما دونه من مستويات.
ومع ذلك يبقى العقل مدار التفكير والتصوير، فلا توضع لبنة «العقل الفعال» في القمة إلا ويعلوها شيء آخر، إذ يبقى كل هذا التطور والتسلسل في حدود «سلم الموجودات»، الذي يستظل بالمرتبة الأولى، والعليا التي لا تكون إلا للخالق سبحانه وتعالى.
إن العقول الأربعة (العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال)، تبقى حجةً على ذات الإنسان فيما يستطيع أن يسمو به ويتطور، وفيما يمكنه أن يضيف عليه إضافةً نوعية، وفي الآن ذاته يمثل هذا التدرج ككل شاهداً على الإنسان ومدى حاجته الدائمة للارتواء من أعلى مراتب المعرفة، من خلال السمو في العلاقة مع الخالق عز وجل، ونزع تراتبية التطور والحداثة المعرفية المنحصرة في سياق الولادة الفلسفية، والاستحداث المنهجي، والثبات وراء «هلامية» المادة منزوعة الروح. وهكذا يبدو الانعتاق من تراكمات المعارف، وإملاءات الطبيعة، هو السبيل الحكيم لفهم غاية المعرفة.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة