الوردي.. وندمه على «وعاظ السلاطين»!
ليس أكثر شهرةً مِن كتاب علي الورديّ (ت: 1995) «وعاظ السّلاطين»، عند صدوره. ففي العنوان جرأةٌ على«نقد الفقية والسلطان»! أما مِن النّاحيّة البحثيّة فكان أقل مصنفاته علميّةً. رغبَ بالكتاب غير المختصين، غير السَّائلين عن مصدر المعلومة، وغير المميزين بين المصدر والمرجع.
اعتمد الورديّ، في الرّوايات وليس الآراء، على كُتب المعاصرين، مقتبساً منها منقولات تحفل بها كتب المصادر. فمِن الصَّعب اعتماد مؤلفات العقاد (ت: 1964) مصادرَ مثلاً، إلا إذا كنا نقصد رأي العقاد وليس المعلومة، وكذلك الحال بالنسبة لطه حسين (ت: 1973)، وغيرهما الكثير. لكنّ علينا أخذ الوقت الذي صنف به الوَردِيّ كتابه هذا، وهو (1954)، أي في بداية رحلة التأليف والبحث بعد أخذه الدُّكتوراه (1950)، وهو نفسه يعترف بذلك في مقابلةٍ أجرتها معه مجلة عراقيّة سنأتي على ذِكرها.
تورط أحد الكُتاب المعاصرين في جريدة ذات شأن، باقتباس نصٍ يخص العراق، ورفعه إلى الجاحظ (ت: 255هـ)، والنّص كان مهماً: «إن أهل العِراق أهل نظر وفطنة، وأهل الشَّام أهل بلادة وتقليد...»، ونسب صاحبنا الاقتباس إلى الجاحظ في «البيان والتّبيين». اتصلتُ بالكاتب وطلبتُ هدايتي إلى مصدر النّص عند الجاحظ، فعجز عن ذلك، وكنتُ أعلم أنه اقتبسه مِن عليّ الورديّ، لكنه أراد تقديم نفسه باحثاً في المصادر الأُصول، والورديّ نسبه إلى الجاحظ بذِكر الجزء والصَّفحة، بينما كُتب الجاحظ كانت خاليةً مِن النّص الذي أورده شارح «نهج البلاغة» ابن أبي الحديد المعتزليّ (ت: 656هـ)، مع العبارة: «قال شيخنا الجاحظ»، فالأخير أحد أبرز شيوخ المعتزلة. كان هذا مثالاً على عدم التثبت مِن المصادر، ويتورط بها اليوم جمهرة مِن الباحثين والكَتبة. بهذا وغيره كنتُ أعتبر «وعاظ السّلاطين» أقل كتب الورديّ علميّةً، ولم يكن ذا باع في البحث به، فهو كباحثٍ في عِلم الاجتماع يبني تصوراته الاجتماعيّة على المعلومات التّاريخيّة، فإذا لم تكن صحيحة، تكون التَّصورات خاطئة. ما كنتُ أطرق هذا الموضوع، وأنا أعد نفسي مِن عيال علي الورديّ في البحث والكتابة، لولا أنَّ الوردي نفسه تبرأ من هذا الكتاب الذي مازال منية كلّ قارئ، وفيه أخطأ بيقينه أن ما حدث بصفين (37هـ) وغيرها يتحمل مسؤوليته عليّ بن أبي طالب (35-40 هـ) دون سواه.
هذا، ولشهرة الكتاب أشعنا في المعارضة العِراقيَّة أن النّظام السّابق منع تداوله، واختلقنا قصة مثيرة عن ذلك (نشرناها في صحيفة المؤتمر). يقول الوَرديّ- بعد تسعة وعشرين عاماً (1954-1983) مِن تأليف «وعاظه»: «وإني لأشعر بالنَّدم على تأليفه، وإنّه حصل على أهمية أكبر مما يستحق.. حيث تَغْلب عليه الحماسة، والإثارة، وقد كان الواجب علي أن أبتعد عن ذلك جُهد إمكاني، لأنَّ المنهج العلميّ يوجب على صاحبه أن يكون موضوعياً، بذكر المحاسن والمساوئ معاً، بلا مبالغة ولا مغالاة» (حسين الحَسنيّ، حوار مع الدُّكتور عليّ الورديّ، الأقلام العراقيَّة، العدد 8 أغسطس 1983).
إنَّ المراجعة والاعتراف حسنةٌ مِن محاسن العلماء، والورديّ كان عالماً فذاً في اعترافه، بينما كم مِن المعدودين باحثين أخذهم العناد، ولم يعتذروا عن فضائح واجههم بها مخلصون للبحث. أقول: مَن يقنع «الرَّأي العام» الذي وصفه صاحب الوعاظ بالمقدس، في نظر بعض المفكرين (الوردِيّ، الرّأي العام والغوغاء، مناهل 4/1975)؟ الرَّأي المعتمد على الإشاعة والنَّقل الشَّفاهي، لا التّحقق والبحث، فكم باحث كشف أنَّ الوردي كان الأضعف في «وعاظ السّلاطين»؟ بل أخذوا ينتحلون منه، ويرتكبون خطأه، على أنهم باحثون، ولا يهمهم أنَّ كاتبه قد تبرأ منه!
*كاتب عراقي