أميركا و ليبيا.. ما بعد الإعصار
قبل بضعة أيام ضربت أسوأ عاصفة في الذاكرة الحديثة الجبال الخضراء شرق ليبيا بأمطار غزيرة، مما دفع سدين يبلغ عمرهما نصف قرن من الزمان ويفتقران إلى الصيانة إلى ما لم يكن أحد يتصوره. قبل الساعة الثالثة من صباح يوم 11 سبتمبر، انهار السد الأول.
واندفع جدار هائل من المياه إلى مجرى النهر الذي يشطر مدينة درنة الساحلية. توقفت المياه المندفعة لفترة وجيزة عند السد الثاني على بعد ثمانية أميال من مجرى النهر، ثم جرفته وكل شيء آخر في طريقها، وألقت الحطام في البحر. وبحلول الفجر، كان ثلث المدينة قد اختفى، تاركاً الآلاف في عداد المفقودين.
ويقول مسؤولون محليون إن الحد الأدنى لعدد القتلى من المرجح أن يكون 10000 على الأقل ولكن يمكن أن يكون ضعف ذلك. يصف الكثير من الناس في ليبيا ما حدث بأنه تسونامي، وليس فيضاناً، لمحاولة فهم طبيعة الدمار وقوته. ويحتاج سكان درنة البالغ عددهم حوالي 100000 نسمة، والذين تقطعت بهم السبل الآن، بشكل عاجل إلى المأوى والغذاء والمياه والرعاية الطبية. وهم أيضاً بحاجة إلى جسور مؤقتة لتحل محل تلك التي جرفتها المياه، وإلى مهندسين لإعادة بناء جميع الطرق وإصلاح أجزاء من ميناء المدينة المدمر.
ويحتاج السكان أيضاً إلى خدمة الهاتف المحمول للوصول إلى أفراد الأسرة والأصدقاء، وكذلك لأكياس لوضع الجثث التي يتم انتشالها من البحر. لقد أصبح الآلاف بلا مأوى، ويخشى المسؤولون من احتمال انفجار سدود أخرى في المنطقة. إن حجم الدمار كان سيعتبر هائلاً بالنسبة لأي دولة تتمتع بإدارة جيدة ومجهزة تجهيزاً جيداً للتعامل معه. أما بالنسبة لليبيا فسيكون الأمر مستحيلاً، نظراً للعزلة المفاجئة لمنطقة الكارثة، والافتقار إلى المعدات، وعمق الخلل السياسي في البلاد.
منذ عام 2014، يعيش الليبيون في ظل حكومتين متنافستين ومنخرطتين في صراع على السلطة من شأنه أن يؤدي بالتأكيد إلى إبطاء جهود التعافي واسعة النطاق المقبلة. وفي يوم الأربعاء، كان الجيش المصري في طريقه إلى ليبيا محملاً بمعدات ثقيلة، بالإضافة إلى وصول حاملة طائرات برمائية واحدة على الأقل من إيطاليا، القوة الاستعمارية السابقة لليبيا. لكن تاريخ الولايات المتحدة الفريد والمأساوي في ليبيا، وخبرتها الفنية وعمق مواردها في المنطقة، هو الذي يفرض على أميركا التزاماً أخلاقياً بالتدخل في هذا التصدع.
ربما يتساءل العديد من الأميركيين: لماذا ينبغي لنا أن نهتم؟ في عام 2011، قادت الولايات المتحدة الجهود الدولية لإنقاذ مدينة بنغازي من هجوم معمر القذافي، وهي خطوة حسنة النية وقعت في فخ التوسع في المهمة. وفي نهاية المطاف، أدى التدخل بقيادة حلف شمال الأطلسي إلى الإطاحة بنظام القذافي. وتركت الولايات المتحدة معظم عملية إعادة البناء لحلفائها الأوروبيين. وركزت جهودها على تعزيز الديمقراطية بدلاً من بناء الدولة. ومن المفارقات أن هذا كان هو القرار الذي ساعد في هدم المكاسب الديمقراطية المبكرة في ليبيا.
وسرعان ما تدهور الوضع الأمني في جميع أنحاء البلاد، مما سمح بشن هجوم تابع لتنظيم «القاعدة» على البعثة الدبلوماسية الأميركية في بنغازي عام 2012. ومع الانفجار السياسي الداخلي الذي أعقب ذلك، انسحبت الولايات المتحدة – أولاً من بنغازي ثم من ليبيا. وظهر الانقسام السياسي بين شرق البلاد وغربها في ظل الاضطرابات، وهو التمزق الذي دفع الليبيون العاديون ثمنه باهظاً منذ ذلك الحين. لا يحتاج المرء إلى النظر إلى أبعد من مدينة درنة للحصول على إثبات.
إذ كانت المدينة الليبية تشتهر بجمالها الطبيعي وشلالاتها ومياهها ذات اللون الأزرق، وكانت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مركزاً للتعليم والفنون. ولكن بحلول أواخر التسعينيات، وفي ظل حكم القذافي، أصبحت درنة نقطة ساخنة للمعارضة المتطرفة. ولم يكن مفاجئاً أن تكون المجموعة المرتبطة بتنظيم «القاعدة» والتي شاركت في هجوم بنغازي عام 2012 من درنة، أو أنه بعد عامين، أنشأ تنظيم «داعش» لفترة وجيزة ما أسماه إمارة إسلامية في المدينة.
منذ ذلك الحين، شعر سكان درنة وشرق ليبيا ككل - كما كانوا تاريخياً – بأنهم مهملون، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبنية التحتية، مثل السدود، التي يخشى الكثيرون أنها ستنهار في يوم من الأيام. وفي ظل هذه الحاجة الماسة في الوقت الحالي، تتيح كارثة درنة للولايات المتحدة فرصة نادرة للانحياز مرة أخرى - ليس مع أي من الفصائل السياسية الليبية، ولكن مع الشعب الليبي. إنها فرصة لواشنطن للعودة إلى المثالية الراسخة التي حفزت الولايات المتحدة ذات يوم على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في التدخل لأول مرة في عام 2011: الرغبة في حماية المدنيين من الأذى. وقد أعلن الرئيس جو بايدن، أن الولايات المتحدة سترسل أموالاً طارئة إلى ليبيا عبر منظمات الإغاثة و«التنسيق مع السلطات الليبية والأمم المتحدة لتقديم دعم إضافي». وأضاف بايدن: «إننا نشارك الشعب الليبي في حزنه على فقدان الكثير من الأرواح». هذا الشعور الأخير هو في محله تماماً.
ومع ذلك، فإن إعلان إدارة بايدن عن إرسال مساعدات يشير إلى أنها تفضل إبقاء ليبيا بعيداً، ربما بسبب الحذر الشديد، نظراً للتأثير المدمر لفضيحة بنغازي السياسية على السياسة الداخلية الأميركية. وفي حين أن بعض المساعدات الدولية في الطريق الآن، لا توجد دولة أخرى قادرة حالياً على تقديم نفس الدرجة من الإغاثة مثل الولايات المتحدة، سواء الآن أو بعد أسبوعين من الآن. هناك مخاطر مرتبطة بأي مهمة مساعدات – حيث إن الجماعات المتطرفة، على سبيل المثال، لا تزال نشطة في المنطقة – ولكن هذه المخاطر يمكن التغلب عليها.
ما يمكن أن تقدمه واشنطن على الفور وخلال الأسابيع المقبلة هو الخبرة الفنية، التي تجسدها مجموعات مثل فيلق المهندسين بالجيش وكتائب البناء التابعة للبحرية الأميركية، والمعدات الثقيلة مثل طائرات الإنزال والمروحيات لنقل كميات كبيرة من المساعدات إلى درنة عن طريق البحر والجو.
ربما تكون الولايات المتحدة قد فقدت فرصتها لتكون المستجيب الأول، لكن احتياجات إعادة الإعمار ستستمر لأسابيع وأشهر وحتى سنوات. وستكون المساعدات الأميركية الكبيرة موضع ترحيب أيضاً ولو بشكل هادئ من قبل المعسكرات السياسية المتنافسة، التي تتعرض الآن لضغوط هائلة من مواطنيها لتقديم المساعدة. بعد سنوات من التعامل مع ليبيا باعتبارها مشكلة يجب احتواؤها وإبعادها، لدى الولايات المتحدة فرصة الآن، من خلال هذه الكارثة، لإعادة التعامل مباشرة مع الشعب الليبي.
إيثان كورين*
*دبلوماسي أميركي سابق في ليبيا ومؤلف كتاب «بنغازي! تاريخ جديد من الفشل الذريع الذي دفع أميركا وعالمها إلى حافة الهاوية».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»