الرأسمالية وسلاسلها
جدلية الفكر الرأسمالي والاشتراكي لن تنتهي حتى في القرن الحادي والعشرين وبعدما انتهت الحرب الباردة الأولى وجاءت الثانية، يتساءل أحد مواطني الشرق الأوسط وهو يعيش في قرية إن كان معنياً بتحمل تبعات تأخر أحد أثرياء الولايات المتحدة عن سداد مديونياته للبنوك التي اقترض منها ليأكل وجبات الهامبرغر!، هنا تبدو مشكلة الرأسمالية وسلاسلها المعقدة، فهذه الشبكة الاقتصادية، وإن هي وضعت لإحياء التنمية في دول ومجتمعات خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة وفرضت شكلاً للنظام العالمي، فما ذنب شعوب لم تدخل أصلاً في تلك الحرب؟
ولماذا يتعيّن عليها أن تكون جزءاً من الدورة الاقتصادية؟ من 1870 حين ظهرت الثورة الصناعية الثانية تشكّل معيار الاقتصاد الذي أخذت تقوده الرأسمالية، وأحدثت تغييراً جذرياً أسهم في ظهور الماركسية لمواجهة ما كانت تراه الطبقات العمالية استبداداً.. الاحتكار ظلّ وسيبقى معضّلة معقدة لم تستطع القوى المناهضة لها مقاومته حتى وهي تذهب إلى الإيمان بالمعتقدات الشيوعية في سبيل أن تقف أمام الاختلال في المعايير الاقتصادية.
ماركس ولينين وماو تسي تونغ قدموا الصيغة المناقضة للرأسمالية، ودفعوا بكل الطبقات العاملة لتحتشد مطالبة بحقوقها من الثروات، تصادم مباشر صنع استقطاباً سياسياً خلق في الواقع حروباً مفتوحة في كل العالم، حرب الوكلاء والجواسيس اشتملت على كل شيء وبدلاً من خلق فرص العمل خلقت فرص الصراعات والحروب.
لم يعرف العالم صيغة عملية للخروج من هذه التعريفات الإيديولوجية إلى أن أظهرت الصين مساراً بديلاً في احتفاظ الحزب الشيوعي بتركيبته السياسية مع منح الملكية العامة للشركات والمؤسسات، صيغة مختلفة في جانبها الاقتصادي، لكنها أبقت على مفاهيم الحزب والدولة وعلاقتهما بالشعب، لا وجود للديمقراطية ولا مكان للحرية، لكن هناك فرصاً وظيفية للكثيرين، معادلة صينية انتهزت حقيقة أن في الصين يداً عاملة تريد أن تجد فرصة عمل، وهذا ما وضع الصينيين في المقدمة ثم تلاهم الروس ولحق بهم الهنود أخيراً.
يذكر التاريخ أن جبهة مضادة ظهرت في خمسينيات القرن العشرين، أطلقها رئيس الوزراء الهندي جواهر نهرو، فيما سمي بدول عدم الانحياز، تكتلت قوى عريضة كانت من بينها مصر ويوغسلافيا، حاولت تلكم الجبهة فتح المسار الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، ولكنها في الواقع لم تتمكن من إنتاج الشيء المختلف.
الرئيس جمال عبدالناصر كان من بين أكثر من حاولوا صناعة ذلك المسار، فهو مسلم ويتبنى الاشتراكية، هذه الصيغة وإن لم تستسغ عند الماركسيين، فهي كذلك لم تستسغ عند الغربيين، مجموعة دول عدم الانحياز انحازت إلى أن تكون في النهاية هي الوكيل للحرب الباردة بين السوفييت والغرب. الإشكالية تبدو ظاهرة في ما شكلته الرأسمالية من سلاسل ممتدة نواتها في العملة الأميركية الدولار، الذي قيّد شعوب العالم وربطهم بأعناقهم وأيديهم ليكونوا في شبكة واحدة، الاستقلال والحرية والمساواة ظلت شعارات استخدمت لتطويع الثروات.
النظام الدولي الليبرالي انفرد لثلاثة عقود وحيداً ولم يكن بذلك القدر من سموّ المبادئ، شنت الحروب باسم الديمقراطية والعدالة والحقوق وقتل الملايين وشردت شعوبٌ وجماعات، فكان لا بد أن تتشكل روافع مضادة، فأندية السبع الكبار ومجموعة العشرين يقابلها مجموعة «بريكس» وشنغهاي وسيأتي غيرها. فالنظام الدولي يتشكل، والاستقطابات مستمرة، والكل بات يتحدث عن غليان الكوكب المناخي، ومع ذلك فمن يدفع الفاتورة هم شعوب الأرض، والتكلفة الأكثر على فقراء العالم.
من طبيعة الأشياء التصادم وكذلك من طبيعتها الحوار والتسامح، يبقى في هذا العالم الفطرة وفيه الأخلاق فهل سيكترث الرأسماليون بغلظة سلاسلهم؟ فالشعوب تعبت والأمم أرهقت، والسؤال الأول للمواطن الشرق أوسطيّ لم يجد جواباً بعد، فلماذا عليه أن يضاف على فاتورته أن يدفع تأثيرات المصانع، فهو المستهلك الأخير ومن أرضه تذهب المواد الخام لمصانع العالم وتبقى الإجابة عند حكماء الكوكب.
*كاتب يمني