عن فيروز والرحابنة
يسألها ساحر الصوت الدافئ حكمت وهبي في لقاء إذاعي من باريس عام 1988، هكذا مباشرة وبعذوبة: «مم تخاف فيروز؟»، فتجيبه بدفء مكتمل الطمأنينة: «من فيروز». يستدرك أميغو العرب بذكاء ويستفسر: «من اسم فيروز؟»، تجيب بحسم يفتح كل أبواب التأويل: «طبعاً!».
كان لقاء الراحل نجم إذاعة مونتِ كارلو اللبناني مدته عشر دقائق، اقتطعها من وقت السيدة فيروز في حفلتها الباريسية الشهيرة في صالة بيرسي، وقد تلقّت قبل ذلك بيوم، أحد أرفع الأوسمة الفرنسية بأمر الرئيس فرانسوا ميتران.
شخصياً أتذكّر مَشاهدَ التكريم وحفلة باريس 1988 جيداً.. سجلتُها على «كاسيت فيديو» وأعدتُه مراراً وتكراراً حتى وثَّقتُ اللحظةَ في ذاكرتي بالصوت والصورة والألوان. وكان جاك لانغ، وزير الثقافة الفرنسي أيامَها، يقف أمام السيدة فيروز ويقول لها بلغته الفرنسية إنه يستمع لها مُذْ كان شاباً صغيراً.. وإنه سعيد بعد كل هذا العمر أن يقلِّدها وسامَ الفارس.
كان جاك لانغ شاباً العشرينات عندما وصل بيروت بحراً من مرسيليا في خمسينيات القرن العشرين مع فرقة مسرحية ليقدم عروضاً في لبنان، والتقى الأخوين رحباني وفيروز في بعلبك، وسمع فيروز لأول مرة.. وعاد إلى بلاده مسحوراً بذلك الصوت. فيروز، تحني رأسها لتتقلد الوسام مِن يد الوزير الفرنسي بالغ الثقافة، وتشكره بكلمات قليلة وموجزة، كعادة نهاد حداد في كل حوار منذ صارت «فيروز».
في عام 1988، كانت فرنسا تحتفل بالسيدة الأكثر شهرةً في العالَم العربي، والأكثر سحراً بغموضها كذلك. أيامها، كانت «ريما» في المشهد أيضاً، كانت ترافق والدتَها في باريس، كانت تتموضع كما هي دائماً في خلفية المشهد الفيروزي، في زاوية منه.. هي ريما التي كانت في المشهد الشهير وعنوان الأغنية الخالدة، وهي ريما التي تشعر بغضبها المنفجر كبركان وقد حولته إلى مظلومية بنكهة «رحبانية».
ما يزال في ذاكرتي تقرير صورة إخبارية سردية في تلك الفترة التي سبقت انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، تقرير إخباري بثته وكالة أنباء وتناقلته الصحف المطبوعة حول عودة السيدة فيروز إلى لبنان من سفر إلى الخارج، وكيف أن موعد عودتها المعلن خلق حالة فانتازية من الهدنة بين كل الفصائل المتنازعة، فقررت تلك الفصائل يوم وصول السيدة إلى مطار بيروت أن تفتح كل حواجزها ومتاريسها في خط سير السيدة إلى بيتها، وأن ينكس كل المقاتلين على تلك المتاريس أسلحتهم في حضورها العابر. وكان لفيروز منزلان في بيروت تقيم فيهما دورياً أيامَ الحرب الأهلية، أحدهما في الرابية حيث الأكثرية المسيحية والآخر في الروشة حيث الأكثرية مسلمة.
تلك الصورة الإخبارية المطبوعة بالأحرف السوداء، كانت كافية لتترك في مخيلة قارئها مساحات شاسعة لتلوينها بكل الألوان الممكنة، وكافية أيضاً لتوضيح رمزية «السيدة فيروز» في المخيال اللبناني وفي الوجدان العربي على أوسع نطاق، وهي رمزية تتجاوز شخص السيدة الوقورة طوال مسيرتها الفنية الطويلة إلى حالة يوتوبيا وردية كانت بمثابة جنة الأحلام لكل عربي مقهور وجد في عالم الرحابنة تلك الأمنيات الوادعة.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا