الصراعات العالمية وتداعياتها
منذ عام ونصف دخل العالم حالة من الهستيريا من خلال الإجراءات والإجراءات المضادة والتي من غير المعلوم كيف ستنتهي وإلى أين ستقود الجميع، وبالأخص الشعوب الفقيرة. ومع أن هذا الصراع قد ينجم عنه تشكّل عالم جديد متعدد الأقطاب، فإن تداعياته السلبية ستشمل معظم اقتصادات الدول، بما فيها الدول العظمى التي تقود هذه النزاعات من دون أن تدرك حتى الآن أنه لا جدوى من كل ذلك، وأن الخسائر ستعم الجميع بدليل المؤشرات الاقتصادية التي تنشر تباعاً لاقتصادات الدول الكبرى.
فالتنافس الأميركي الصيني يكلف الدولتين خسائر باهظة، إذ في الوقت الذي تراجع فيه إنتاج الصين الصناعي وانخفضت صادراتها، خفضت وكالة «فيتش» الائتمانية بداية شهر أغسطس الحالي التصنيفَ الائتماني للولايات المتحدة من AAA إلى AA+، لأول مرة منذ عشر سنوات، مما يفسر -وفق صحيفة «وول ستيريت جورنال»- كيف أصبح الوضع المالي للولايات المتحدة مختلفاً وخطيراً. وأعقب ذلك تخفيض وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني لعشرة بنوك أميركية صغيرة ومتوسطة بسبب مخاطر الديون وارتفاع تكاليف التمويل وضعف رأس المال، محذرةً من إمكانية تخفيض تصنيف بنوك كبرى ستكون تحت المراقبة.
وإضافة إلى تلك الأسباب، فإن هناك عاملاً آخر مهماً يتعلق بوضع الدولار، كعملة احتياطي دولية، حيث تتسع معاملات التبادلات التجارية بين الدول بالعملات الوطنية، مما أفقد الدولارَ جزءاً من أهميته، وبالأخص بعد أن تم إبعاد روسيا من نظام «سويفت»، باعتبارها واحدة من كبار مصدري النفط والغاز، إذ سمحت واشنطن مؤخراً لبعض البنوك الروسية باستخدام هذا النظام حتى 8 نوفمبر القادم، مما يعني أن هناك محاولات للتقليل من الأضرار الناجمة عن التعامل بالعملات الوطنية، إلا أنه من غير المؤكد هل سيؤدي هذا إلى عودة روسيا للتعامل بالدولار في تبادلاتها الدولية أم أنها وجدت البديل؟
ومن جانب آخر فرضت المفوضية الأوروبية قيوداً على صادرات الصين، وذلك رغم تصريحات المستشار الألماني بأن «لا مصلحة لألمانيا في مقاطعة الصين»، مؤكداً أهميةَ العلاقات الاقتصادية معها، في حين صرح وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير بـ«أن قطع العلاقات الاقتصادية مع الصين وهم»، خصوصاً وأن الشركات الأوروبية خسرت 110 مليارات دولار بسبب انسحابها من روسيا، مما يعني أنها غير مستعدة لتلقي صدمة جديدة. وعلى الجانب الآسيوي احتجت اليابان على قرار روسيا القاضي بتعليق الاتفاقية الضريبية مع الدول التي تصنفها روسيا «غير صديقة»، وضمنها اليابان.
وهناك الكثير من الأمثلة عن تلك الإجراءات العقابية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية العالمية في عصر اقتصاد المعرفة والتعاملات المالية الذكية التي تتيح خيارات عديدة، مما يزيح الكثير من القيود السابقة التي يمكن أن يتحكم بها طرف واحد من دون غيره.
ويعني ذلك أن العلاقات الاقتصادية الدولية بحاجة لنظام مالي وتجاري ونقدي جديد يتناسب ومرحلة التقدم الحالية، فالنظام السابق الذي استمر نحو ثمانين عاماً لم يعد فعالاً، بل أصبح معرقلاً للتجارة وللمعاملات المالية التي تلعب دوراً كبيراً في العلاقات التبادلية، إلا أن ذلك يتطلب قناعةً من كافة الأطراف بضرورة هذا التغير والذي تكمن إشكالاته في المقاومة التي تبديها البلدان التي صاغت بنودَ النظام الحالي وعدم قبول الدول التي تطورت وأصبح لها ثقل كبير في العلاقات الدولية بالوضع القائم والذي تعتقد أنه لا بد من تغييره ليعكس موازين القوى الحالية، من الناحيتين الاقتصادية والجيوسياسية. وفي جوهر ذلك يكمن سر الخروج من الأزمات والصراعات الحالية ليتجه العالم نحو التعاون والتنمية، إلا أن ذلك يتطلب تنازلات وقبولاً بحتمية التغيير، كلازمة للتطور التاريخي في كافة المجالات.
*خبير ومستشار اقتصادي