اِبنُ رُشد: شَرعيَّةُ تَدريس الفلسفة
حاول أبو حامد الغَزاليّ(ت: 505هج) جعل الفَلسفَة نقمةً على التّفكير، في: «تهافت الفلاسفة»، و«مقاصد الفلاسفة»، و«المُنقذ مِن الضَّلال»، ولهذه المهمة اعتبر نفسه معنياً بحديث التّجديد، فقال: «وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كلِّ مئةٍ، ويَسرَ الله الحركة إلى نيسابور، للقيام بهذا المهم في ذي القعدة، سَنة تسع وتسعين وأربع مئة»(المُنقذ مِن الضَّلال). التبس على مَن عدَّ هذا التَّاريخ تاريخاً لتأليفه «إحياء علوم الدِّين»، بينما شرع بتأليف الأخير(451هج) وأنجزه(460هج)، وفق مقدمته للإحياء.
ردَّ أبو الوليد ابن رُشد الحَفيد(ت: 595هج) على الغزاليّ منهجياً(تهافت التَّهافت)، فأعاد للفلسفة مكانتها في التّراث الفكريّ، وللفلاسفة دورهم في العِلم والحياة، وعلى هذا أفتَى بتدريس الفلسفة، وكان قاضياً وفقيهاً له: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». بعد تحريمها مِن قِبل الغزاليّ، فمَن يقول: «هذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفَلسفَة وغائلتها»(المُنقذ...) أتجده يسمح بتدريس الفلسفة؟! خلافه أفتى ابن رُشد بوجوب تدريسها في «فصل المقال فيما بين الحِكمة والشَّريعة مِن اتصال»، كتاب حققه محمَّد عَمارة(ت: 2020)، وقدم له بما يليق، قبل مغادرتهِ الإعجاب بالمعتزلةِ والفَلسفَة، وتبني مطاردة فرج فودة(اغتيل: 1992) ونصر حامد أبو زيد(ت: 2010).
يسأل ابن رُشد عن «حكم دراسة الفَلسفَة»: «فإنَّ الغرض مِن هذا القول: إنْ نفحص، على وجهة النَّظر الشَّرعيّة، هل النَّظر في الفَلسفَة، وعلوم المنطق مُباحٌ بالشَّرعِ أم محظورٌ، أم مأمورٌ به، إمَّا على جهة النَّدب، وإمَّا على جهة الوجوب؟». ويُجيب: «إنْ كان فِعل الفَلسفَة ليس شيئاً أكثرُ مِن النَّظرِ في الموجودات، واعتبارها مِن جهة دلالتها على الصَّانع، أعني مِن جهة ماهي مصنوعات، لأنَّ الموجودات إنما تدل على الصَّانع، بمعرفة صنعتها، وإنَّه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصَّانع أتَّم»(الفصل).
يتوصل ابنُ رُشد بعد ضرب الأمثلة بآيات، مشجعة للنَّظر العقليّ، إلى أنَّ الشّرع لا يمنع دراسة الموجودات بالعقل، أيّ الفَلسفَة، التي عُرفت بـ«محبة الحكمة»(الشَّهرستانيّ، الملل والنِّحل) و"الإحاطة بالمعلومات"(الجرجانيّ، التَّعريفات). تزامناً مع ابن رُشد وعسكه، صَنف ابن قُدامة(ت: 620هج) «تحريم النّظر في كُتب الكلام»: «أهل الأَهوَاء والبدع عِند أَصحَابنَا هم أهل الكَلَام، فَكلُّ مُتَكَلم مِن أهل الأَهوَاء والبدع أشعرياً كَانَ أَو غير أشعري، لَا تقبل لَهُ شَهَادَة، ويهجر، ويُؤدب على بدعته...». أقول: إذا حَسب ابنُ قُدامة أبا الحسن الأشعري(ت: 324هج) على الأهواء، فما حِساب الفَلاسفة عنده؟! وهل يسمح التَّابع لرأيه بتدريس الفَلسفَة؟!
كذلك هل يسمح بتدريس الفَلسفَة مَن يعتقد بعبارة ابن خَلدون(ت: 808هج): «إبطال الفَلسفة وفساد مُنتحليها»، وقوله عن الفلاسفة، اليونان والمسلمين: «واعلم أنَّ هذا الرَّأي الذي ذهبوا إليه باطلٌ، بجميع وجوهه»(المقدمة). بينما تدريس الفَلسفَة يفتح المدى المعرفيّ أمام العقل، ويجسد الثّقة به.
غير أنَّ تدريسها، الذي كُرَّه وحُبّذ، لا يصح تطبيقه على أساس العقائد، فتلك لم تعدَّ فَلسفةً، إنما مقابلة الآراء والبحث، وتدريس تاريخ الفلسفة، فهذه المادة المؤسسة للدرس الفلسفيّ، وإذا تحولت إلى عقيدة لم تبق محبة حكمة، ولا إحاطة بمعلومات. لأنَّ الفَلسفَةَ ليست عقيدةً دينيةً، العقائد الدِّينيَّة تعاليم وهي آراءٌ وأفكارٌ.
نجد الغزاليّ، الذي زَندقَ أصحابها، تحوَّل بتأثيرها، بعد معاناته، مِن فقهاء عصره، بسبب الخوض بها، ضد التّكفير بين المذاهب(فيصل التّفرقة...). صار فيلسوفاً بالعدوى، بعد لومه للفلاسفة على «استدراج العوام»(المُنقذ...)، وإذا به يُستَدرج! فقال القاضي ابن عربيّ(ت: 543ه): «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفَلاسفة، ثم أراد أنْ يخرج منهم فما قدر»(ابن تيمية، الانتصار لأهل الأثر). أقول: إذا أفتَى ابن رُشد، قبل ثمانية قرون، بوجوب تدريس الفلسفة، يوم لا اكتشافات ولا اختراعات، فكيف الآن!
* كاتب عراقي