الدَّين الأميركي.. ليس أزمة
يوم الثلاثاء، صدمت وكالةُ «فيتش»، التي تُعد واحدة من أكبر ثلاث وكالات تصنيف ائتماني، العديدَ من المراقبين بخفضها تصنيف الديون الأميركية. مسؤولو إدارة بايدن لم يكونوا الوحيدين الذين شعروا بالصدمة والغضب، بل إن عدداً غير قليل من الاقتصاديين، بمن فيهم بعض ممن سبق لهم أن حذّروا بشدة من الإنفاق الكبير، اعتبروا أن القرار ينم عن «انعدام كفاءة» وأنه «غريب» و«غير معقول» وأسوأ من ذلك. وبالفعل، فقد كان من الصعب التفكير في أي طريقة تدهورت بها التوقعات المالية للولايات المتحدة منذ العام الماضي حينما منحتنا «فيتش» تقييماً جيداً بخصوص صحة النظام المالي.
غير أن تكاليف الاقتراض الأميركية قفزت، إذ ارتفع سعر الفائدة على السندات الحكومية لمدة 30 عاماً من 4.03% يوم الاثنين إلى 4.32% يوم الخميس. فهل فعلت «فيتش» ذلك؟ وفي ما كان يفكر السوق؟ الواقع أنه ليست لدي أي فكرة.
غير أنه من المفيد التساؤل هنا حول ما يعنيه خفض تصنيف ديون الولايات المتحدة. فأميركا ليست شركة يمكن أن تنفد سيولتها المالية ببساطة. بل إنها ليست حتى دولة مثل اليونان، التي تدين بديون مقوّمة بعملة لا سيطرة لها عليها. ذلك أن أميركا تصدر ديونها بالدولار، والذي تستطيع أيضاً طباعته. هذا لا يعني بالضرورة أنه لا يمكننا أن نواجه مشاكل في القدرة على تسديد الديون أو أن مستوى الدين الحكومي غير مهم. غير أن سرد قصة معقولة حول أزمة ديون الولايات المتحدة أصعب مما يعتقده كثير من الناس، كما أن كلاً من الرياضيات والتاريخ يشيران إلى أن مثل هذه الأزمة من غير المرجح أن تحدث في المستقبل القريب.
سأعودُ إلى القضايا المفاهيمية لاحقاً. ولكن في الوقت الراهن، لنلاحظ أن معظم الاقتصاديين يعتقدون أن هناك حدوداً لحجم الديون التي يمكن لحكومة الولايات المتحدة تحملها كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي (نصيحة: إن ما يهم هو النسبة، وليس القيمة المطلقة للدولار. ثم لا تأخذ أبداً أي شخص يترافع ويحاضر حول «تريليونات الدولارات» على محمل الجد). غير أن تاريخ وتجربة بلدان أخرى يشيران إلى أننا ما زلنا بعيدين عن تلك الحدود.
ولعل أبرز مثال على ذلك هو اليابان، التي راكمت ديوناً أكثر بكثير مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي من ديوننا، لكنها تحدّت التوقعات التي كانت تنذر بأزمة ديون وشيكة لعقود.
والمثال اللافت الآخر هو بريطانيا، التي سجلت خلال معظم القرنين التاسع عشر والعشرين مستويات ديون أعلى بكثير من مستويات الديون الحالية في الولايات المتحدة، من دون أن تواجه أي أزمة ديون.
وعليه، فما الذي قد يدفع الناس للقلق فجأة بشأن ديون الولايات المتحدة؟ الواقع أن الشيء الوحيد الذي أثار اهتماماً مهماً مؤخراً هو ارتفاع مدفوعات الفائدة. ذلك أن الاحتياطي الفيدرالي كان يرفع المعدلات من أجل الحد من التضخم، وهذا الأمر تُرجم إلى ارتفاع في مدفوعات الفائدة الحكومية من حيث القيمة المطلقة وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
وحتى الآن، تُعد مدفوعات الفائدة أقل بكثير مقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي مما كانت عليه في أوائل التسعينيات، لكنها ارتفعت كثيراً من المستويات التي كانت عليها في السنوات الأخيرة. وهذا ما دفع بعض الأشخاص للقلق بشأن دوامة ديون: ذلك أن ارتفاع مدفوعات الفائدة يؤدي إلى ارتفاع الديون، مما يؤدي إلى مدفوعات فائدة أعلى، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى إضافة مزيد من الديون، وبذلك ندخل في نوع من الدوامة المالية القاتمة. فهل هذا شيء يدعو للقلق؟ لا ليس تماماً. ولمعرفة السبب، نحتاج إلى إجراء بعض الرياضيات. عذراً، سأكتبُ معادلة بسيطة هنا.
لنتذكّر أننا نتحدث عن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وليس عن مستوى الدين فقط. وإذا كان العجز، الذي يؤدي إلى مزيد من الديون، يزيد من قيمة بسط تلك النسبة، فإن كلاً من التضخم والنمو الاقتصادي يزيدان من القاسم، مما يؤدي إلى تقليل النسبة. قم ببعض العمليات الحسابية، وستحصل على هذا التعبير عن ديناميات الدين: التغيير في الدين/الناتج المحلي الإجمالي = العجز الأولي/الناتج المحلي الإجمالي + (م-ن)*(الدين/الناتج المحلي الإجمالي) العجز الأولي هو عجز الميزانية من دون احتساب مدفوعات الفائدة، و«م» هو معدل الفائدة على الدين الحكومي، بينما «ن» هو معدل نمو الاقتصاد.
ويمكن الحصول على دوامة ديون إذا كانت «م» أكبر بكثير من «ن»، وفي تلك الحالة، يؤدي ارتفاع الديون إلى تراكم أسرع للديون. لكن قبل بضع سنوات، ألقى أوليفييه بلانشارد، الذي يُعد أحد خبراء الاقتصاد الكلي القديرين في العالم، خطاباً على «الجمعية الاقتصادية الأميركية» أظهر فيه أنه تاريخياً، كان «م» بشكل عام أقل من «ن». وهذا ما يفسِّر عدم وجود دوامة ديون.
ولكن، هل غيّرت أسعارُ الفائدة الآخذة في الارتفاع هذا الاستنتاج؟ ليس تماماً. فحتى بعد ارتفاع السعر في الأيام القليلة الماضية، كان معدل الفائدة على السندات الأميركية المحمية من التضخم لمدة 10 سنوات هو 1.83%، وهو ما يناهز معظم التقديرات بشأن معدل نمو مستدام للاقتصاد. والواقع أننا إذا أخذنا الحد الأدنى من هذه التقديرات، فمن الممكن أن نواجه دوامة ديون، ولكنها ستكون دوامة جد بطيئة الحركة.
ولنضع الأمر على النحو التالي: إذا كانت «م» هي 1.8، بينما «ن» هي 1.6 فقط، فإن تثبيت نسبة الدين مع الدين عند 100% من الناتج المحلي الإجمالي سيتطلب فائضاً أولياً يبلغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وإذا رفعنا الدين إلى 150%، فإن الفائض المطلوب سيرتفع إلى 3% فقط.
وبالتالي، فإذا كنا نواجه احتمال زيادات كبيرة في الديون مستقبلاً - وهو ما نواجهه بالفعل - فإن مدفوعات الفائدة على الديون الحالية ليست هي السبب الرئيسي. بل المشكلة تكمن في ذاك العجز الأولي.
مما يعني أن القضية سياسية في الأساس. وكما أسلفتُ، يجب تجاهل الأشخاص الذين يصرخون بشأن «تريليونات الدولارات». كما يجب تجاهل الأشخاص الذين يصرخون بشأن الإسراف في الإنفاق الحكومي. فالحكومة الفيدرالية أشبه بشركة تأمين بجيش: فهي تنفق بشكل أساسي على الأشياء التي يريدها الجمهور مثل الجيش، والضمان الاجتماعي، والبرامج الصحية. غير أنه لدينا تحالف معطِّل فعّال ضد زيادة الضرائب بما يكفي لتمويل تلك البرامج. ولهذا، فإننا سنستمر في مراكمة الديون إلى أن يتم حل هذه المشكلة. لكن كما قلتُ أيضاً، إن التاريخ يشير إلى أن أميركا ما زالت لديها مساحة مهمة للمناورة. ثم إن هناك حجة معقولة مؤداها أن مستوى الدين غير مهم على الإطلاق.
وخلاصة القول: هل من المحتمل أن تواجه الولايات المتحدة أزمة ديون قريباً، أو حتى خلال العقد أو العقدين المقبلين؟ الجواب بشكل شبه مؤكد هو: لا. أما إذا كنت قلقاً بشأن المدى الطويل، فإنني أقترح عليك أن تولي اهتماماً أقل لإمكانية ديون جامحة واهتماماً أكثر لما بات يبدو على نحو متزايد أنه تغير مناخي جامح.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2023/08/04/opinion/us-economy-debt-crisis.html