انفجار المرفأ.. العدل مازال غائباً
في الرابع من أغسطس 2020، كنت أستعد لذكرى زواجي الثالثة والخمسين، وهي الذكرى الأولى بعد وفاة زوجتي إيلين، اندلعت أنباء عن انفجار هائل في مرفأ بيروت. فقد انفجرت آلاف الأطنان من نترات الأمونيوم المخزنة في صوامع الحبوب بالميناء، مما تسبب في أكبر انفجار غير نووي في العصر الحديث.
وبلغ عدد القتلى 240 وأصيب أكثر من سبعة آلاف شخص وأصبح 300 ألف من السكان بلا مأوى. وانشغلت عن حزني الشخصي بالمشاهد المروعة للانفجار والعذاب المضني الذي اعتصر قلوب اللبنانيين وهم يبحثون في هول وذهول عن أحبائهم وسط أنقاض منازلهم وأحيائهم. وتأثرت ببطولة الشباب اللبناني في الاستجابة للكارثة الإنسانية. فقبل عشرة أشهر كانوا قد ملأوا شوارع بيروت مطالبين بإنهاء النظام الطائفي الذي حوّل الحكم في لبنان إلى مزحة سخيفة
. وها هم قد أصبحوا يساعدون في جهود الإغاثة ويقدمون الدعم والمأوى لمواطنيهم. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار حي الميناء الذي نسفه الانفجار، بعد أربعة أيام من اندلاعه، ولم يزر الرئيس اللبناني أو رئيس الوزراء، آنذاك تفوق الغضب على الصدمة والحزن.
فقد كان الغياب والجهود المثيرة للشفقة والشفافية لإنكار المسؤولية عن الظروف التي أدت إلى الانفجار هو ما يميز قادة لبنان. واحتجاجاً على عدم استجابة الحكومة، استقال بعض أعضاء البرلمان. وإقراراً بفقدان ثقة الجمهور، استقال رئيس الوزراء في نهاية المطاف أيضاً
. وتعهد ماكرون بتزعم جهد دولي لتوفير مساعدات الإغاثة بشرط أن يقوم اللبنانيون بإجراء إصلاحات لضمان شفافية أكبر في الحكم ووضع حد للفساد. وحين رأى اللبنانيون الشخصيات نفسها التي منيت بفشل ذريع في اجتماع الدولة للرد على دعوة ماكرون للإصلاحات، لم يعرف اللبنانيون أيضحكون أم يبكون أم يغضبون. فقد كانوا يعلمون أن لا شيء سيتغير.
ولم يتغير شيء. وبينما كانت جهود الإنقاذ والإغاثة لا تزال جارية، التمس بعض أعضاء البرلمان المستقلين وقادة المجتمع المدني من الأمم المتحدة فتح تحقيق في الانفجار، وهي دعوة حظيت بتأييد شعبي واسع. وفي الواقع، أظهر استطلاع أجريناه بعد عامين من الانفجار أن أكثر من تسعة من كل 10 لبنانيين دعموا تحقيقاً مستقلاً لتحديد أسباب حدوث الانفجار ومحاسبة المسؤولين عنه.
والآن، وبعد ثلاث سنوات من انفجار المرفأ، لا توجد مساءلة أو عدالة، ولا استجابة من المجتمع الدولي لنداء المجتمع المدني اللبناني. وتعرقل التحقيق الذي أجراه القضاء اللبناني المستقل إلى حد ما بسبب التدخل السياسي والمماطلة. وقد رفض وزراء ومسؤولون آخرون الإدلاء بشهاداتهم، وتم عزل القضاة الذين أصروا على التحقيق، وصدرت أوامر بالإفراج عن الأفراد المحتجزين للاشتباه في مسؤوليتهم، مع مغادرة بعضهم البلاد. وأجرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» دراسة شاملة استندت على مقابلات ومراجعة للوثائق. وخلص تحقيقها إلى أن كثيرين من كبار المسؤولين اللبنانيين كانوا على علم بالمخاطر، لكنهم تقاعسوا عن التحرك حين حذروا من المخاطر التي يشكلها تخزين نترات الأمونيوم في المرفأ.
ويكشف تقرير «هيومن رايتس ووتش» أيضاً عن نمط من الإهمال قبل الانفجار وبعده. فقد سعى الرئيس ورئيس الوزراء ومسؤولون آخرون إلى تأجيل العمل وإلقاء اللوم على المرؤوسين و«اختيار طريق التملص والإفلات من العقاب على الحقيقة والعدالة». ويخلص تقرير هيومن رايتس ووتش إلى أن «مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يجب أن يأذن على الفور بإجراء تحقيق، وعلى الدول الأخرى أن تفرض عقوبات تستهدف المتورطين في الانتهاكات المستمرة والجهود المبذولة لعرقلة العدالة».
وبعد مرور عامين على إصدار التقرير، لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن. وبعد ثلاث سنوات من الانفجار ومطالبة ماكرون بالإصلاح، أصبح لبنان في وضع أسوأ مما كان عليه من قبل. ولن يجتمع البرلمان لأن أعضاءه لا يستطيعون الاتفاق على رئيس.
والنظامان المصرفي والمالي في حالة انهيار، حيث يقوم الأفراد بحملات مسلحة لسحب أموالهم لدفع الفواتير الطبية. وهناك نقص في المياه والكهرباء والأدوية. وثلاثة أرباع السكان يعيشون تحت خط الفقر، بينما مازالت النخب الطائفية نفسها التي أصابت البلاد بالشلل تمارس ألعابها المميتة. ومازالت عائلات ضحايا الانفجار والناجين منه تصرخ حزناً من أجل الحصول على إجابات وتحقيق العدالة.
رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن