العلاقات الدولية والذكاء الاصطناعي
الارتباك الذي نشعر به في فهم العالم الذي نعيشه بكل تفاصيله ليس إلا أعراضاً للحالة، وليس الحالة نفسها. وهذا طبيعي جداً أمام استدارة سريعة «نسبياً» وكاملة في منهجية كل ما اعتاد الناس عليه في العلاقات الدولية. التكنولوجيا التي تقدمت حتى صارت في كل بيت ومحمولة في كل يد، تدهشنا بالتواصل، لكن لو علمنا كم هي أعمق بكثير مما قد يصل إليه خيالُنا -مهما وصل- لكانت الدهشة عصية على الوصف.
المتغيرات كثيرةٌ في عالمنا، وكلٌّ منها يأخذ هذا العالَم، الذي نحن ركَّابُه الوحيدون، نحو منعطفات جديدة: الطاقة ومصادرها تغيرت حتى صار الحديث عن تكنولوجيا الطاقة النووية نفسها كلاماً قديماً.. قطاع النقل (الأفراد والبضائع) مفاهيمه تغيرت، مما أصبح يضع فكرة الحدود بين الدول أمام محنة تفاهم مع الواقع الجديد.. المفهوم التقليدي للنقود على أنها مخزن للقيمة تعرض للاهتزاز فارتجت منظومة التجارة كلها بمفاهيمها السائدة.. البنوك تجاوزت بسنوات ضوئية مفهوم «المصرف» الذي يقدم لك خدمةَ التخزين بمقابل، مما جعلها أكثرَ مِن بنوك، وأحياناً أقوى من دول.. إلخ. كل شيء في تفاصيل حياتنا تَغير فجأةً وفي وقت قياسي لم يمنحنا حتى ترف الشعور بالصدمة، فارتبك العالم ولا يزال في حالة ارتباك.
الدولة، كمفهوم تقليدي، تعرضت للتغير هي أيضاً، وهذا انعكس على منظومة العلاقات الدولية وعالم الدبلوماسية فيه. العلاقات بين الدول تتشكل من جديد على أسس مختلفة الآن، ومَن يملك جيوشاً ضخمةً مجهزةً بالعتاد الضخم يمكن أن يواجه صعوبةً في هزيمة مَن يملك أجهزةً صغيرة جداً لكنها فتّاكة وقادرة على أن ترى وتسمع وتقتل.. لذا فعلى مَن يملك الثروةَ الماليةَ الضخمةَ أن يبحث عن الاستثمار الأمثل لأمواله في ثورة التكنولوجيا والمعلوماتية.
الذكاء الاصطناعي أحد أهم المتغيرات الجديدة في عالَمنا، ولا نتحدث هنا عن فتح التخصصات الدراسية الجديدة في بعض الجامعات العربية التي كثيراً ما وقعت في خلط مذهل ومؤسف بين المعرفة والعلوم. الذكاء الاصطناعي صناعة وتجارة عالمية وثورة معرفية، وحروب مخابرات مِن نوع جديد في العالم، تتشارك كما تتقاطع أو تتضارب فيه مصالح دول مع شركات عابرة للقارات وجماعات مصالح.. للوصول إلى صيغة تسيطر على ذكاء متفوق بشكل يومي، ذكاء صنعه البشر ويطورونه ويكاد يفلت من سيطرتهم.
لسنا بحاجة إلى عشرات الكليات الجامعية التي تقوم بتدريس الذكاء الاصطناعي، بل ربما نحتاج معهداً تخصصياً واحداً يكتفي بعدد محدود من الطلاب المتميزين لخوض غمار هذا القطاع الجديد، وفي عالمنا العربي نخب متعلمة ومبنية على المعرفة من شباب تخصصوا واستثمروا أنفسهم في المعرفة التكنولوجية وعالم المعلوماتية، وهؤلاء قيد التأسيس، لكنهم ثروة معرفية مهدورة.
العالم العربي لديه فرصة لخوض غمار هذه المعرفة الجديدة، وهي متغير عالمي لا يتطلب من رأس المال إلا الإنسان نفسه.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا